تعالي تري روحا لدي ضعيفة ... تردد في جسم يعذب بالي
لكن رغم ذلك فمدينته أجّجتْ فيه (حبّ الغير) مهما استطار الذنب، فإنه يرشفه برشفات من عِتاب رقيق تذوب كالثّلج في أنفس المقصود؛ تماماً كما يخاطب الحمامة.
أقرُّ لهُ بالذنبِ؛ والذنبُ ذنبهُ ... وَيَزْعُمُ أنّي ظالم فَأتُوبُ
وَيَقْصِدُني بالهَجْرِ عِلْماً بِأنّهُ ... إليَّ، على ما كانَ منهُ، حبيبُ
و منْ كلِّ دمعٍ في جفوني سحابةٌ ... و منْ كلِّ وجدٍ فيحشايَ لهيبُ
وقرأتُ يوماً لعمر أبي ريشة هذه الأبيات:
وتلاقينا غريبين هنا ... لم تكن أنتَ ولا كنتُأنا
بدلت منا الليالي وانتهى ... عبث الكأس وإغراء الجنى
موسم الوردأخذنا عطره ... وتركنا فيه غصنا لينا
وافترقنا ونأى العهد بنا ... ونسيناوتناستنا المنى
لا تثر ذكرى هوانا ربما ... نفرت عن مقلتيّالوسنا
آن للنعش الذي أودعته ... كل أشلاء الصبا أن يدفنا
امض مندربي فما أحسبه ... في خريف العمر إلا هينا
ولمّا تتبعتُ منبعه (كما فعلوا مع البحتري) وجدتُ طريقي – كذلك - إلى (منْبَج)
ما الذي تغذّيه المدينة هذا الشاعر كي يرقّ لفظُه، ويحسُن كلامُه، وينْظُمُ منطقُه شِعرا؟ وماذا تضيف وتتميز عن غيرها حتى يخرجُ من رحِمها شاعراً؟. وما دور المتلهفون من البشر – الذين جُبلوا على الفرح بمولد شاعر – في روابطهم الاجتماعية والنفسية واللقاءات الأدبية الدائمة؟
كل هذه تساؤلات سيطرت على مجموعة الأفكار وأخذت بزمامها رهائنَ ريثما تجدُ جواباً ..
يبدو إن للماء سِحرٌ خاص، ولانسيابه بين خصاص صخورٍ تزّينت بنحوتها التي لامستها أيدي الرياح وريشة الماء، ثم لاخضرار الروابي وعلوّها دور في اتساع بل رشف رحيق الحروف منها وتكوينها في قالبٍ أرقّ.
اطلعتُ قبل أيام على صورٍ لهذه المدينة (منْبَج)، حرّكت قراءاتي لقصائد شاعري (البحتري) بحثاً عن لمسة من تأثير وتركٍ لأثر خطوة مرّ بها في موطن جميل وأطار فيه حمائمه شعراً.تلك الصور – على حداثتها – إلا أنها تسوقُ الخيال لتذكر أزمنة أخرى.
(للحديثِ بقية)
يتملكني أسلوبك وتأسرني لغتك
ما أروع انسياب كلماتك أيها المبدع
ـ[عامر مشيش]ــــــــ[03 - 10 - 2010, 05:03 م]ـ
أبدعت أخي السراج في الفكرة، وزينتها بروعة حديثك، فكأنك وقفت بنا على ساحل سوريا!
وخلال انتظار بقية الحديث، أسأل:
كيف انعكست الصحراء القاحلة على أدبائها؟
ـ[عز الدين القسام]ــــــــ[03 - 10 - 2010, 09:53 م]ـ
.
أحسنت أخي السراج .. ونعم الانتقاء وجمال الطرح وحسن الربط.
نعم .. فالبيئة لها الأثر الكبير في نفوس أهلها ..
:):) فلو نظرت لمسلسل الإعصار لعز الدين القسام لتبادر لذهنك كم هي جميلة بيئته وكم هو رائع حصارها ونور قذائفها:):)
انتقيت فأتقنت وكتبت فحبكت ...
في انتظار البقية.
دمت متألقا معطاء .. حفظك الله ورعاك.
ـ[السراج]ــــــــ[21 - 11 - 2010, 09:41 م]ـ
أشكرُ من مرّ من هُنا وتركَ أثرا ....
كلماتُكم تزهي الأبواب.
(2) إلى الأندلس كـ (مدينة كبرى) ..
(وهذا العددُ الهائل من البلابل في أرضِ الأندلس ألا يعكسُ صورتها؟!)
لمّا أبى إلا الجفاء معذّبي ** دعوتُ له أن يبتلى بهيامِ
يذوقُ من الهجران ما قد أذاقني ** ويسقمُ منه الجسم مثلسقامي
وكان بخيلا بالوصالِ فحبُه ** غدا باخلا حتى بطيفِ منامِ
حين شربت الأندلس من سماحة الإسلام ودانت للشعاع المنير، للجنود المخلصين، الفاتحين ثماراً يانعةً. وقدم الناس من أصقاع الشرق والغرب للبلد الجديد وفوداً كأسراب النوارس تحلُّ في أرضٍ مع الفجر – وفجرُ كلّ شيء زهو وجمال -. واستقروا بها ونظروا حولهم فإذا هي أنهار وجنات وزهر أشياء من خيال تكوّنت واقعاً محسوساً من حُسن؛ فثارت الأفكار وتفجرت الألفاظ ينابيعاً تحاكي الطبيعة زهوها وتشاكل الأنهار في سلاسة جريانها وعذوبة ما بها، وما الموشحات إلا تقليدا لتغريد الكناري في سهولة إيقاعاته ودقة أصواته.
واقرأ هذا التقافز الشعري في موشح لسان الدين:
جادك الغيث إذا الغيث همى ** يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلكإلا حلما ** في الكرى أو خلسة المختلس
إذ يقود الدهر أشتات المنى ** ننقل الخطو على ماترسم
زمرا بين فُرادى وثنا ** مثلما يدعوالحجيج الموسم
والحيا قد جلل الروض سنا ** فثغور الزهر فيه تبسم
¥