وروى النعمان عن ماء السماء ** كيف يروي مالكٌ عن أنس
فكساه الحسنثوباً مُعلماً ** يزد َ هي منه بأبهى ملبس
لتدركَ أنه بنى الإيقاع قبلَ جلب الكلمات – تماماً مثل حركة الأطيار – التي تبدو كشواهد مُزينة في أفق رحب مربوطة بأختها وإن هالها الطيران، ولتدرك أن أكثر شعر الأندلسيين لا يخلو من مكونات الجنات.
أصبحت الأندلس حاضنة الحضارة والعلم والشعر؛ فقد ولدتْ القصائد بين أزاهير القرى وأنهار المدن التي توشحت بالجمال.وربا العلم فغدتْ علامة بارزة يهفو إليها كل طالب بل أصبحت حلماً لكثير. وأتت قوافلُ الصُّناع والأدباء تحملهم الرغبة في رؤية البلاد الجديدة بعدما أرهفوا السمع حول زواياها البديعة وضفافها الوديعة، يحدوهم أملٌ آخر: نهلُ العلم.
وكان الشعراء تجذبهم أدنى أحاسيس الجماد تصويراً أما ما كانت تنمو فاستلهموا بُنيات أفكارهم وشيدوا أبيات قصائدهم بلبِنَات ألفاظ زينها حسن انتقاء توافقاً مع انتشار المتذوقون حتى أفصَحَ الشعراء عن ذلك. فابن زيدون الشاعر الأشهر في عصر الأندلس يُمسك بـ (منظاره) ويلتقط صوره مرسومة بكلماتٍ زهَتْ مُشاكلةً حسّ واقعه المرئي، فها هو يُلصق الصورة التي التقطها في قصائده تشبيها اعتزازاً:
ما الشِّعْرُ إلاّ لمن قريحتُهُ ... غَريضة النَّوْرِ غَضَّةُ الثَّمَرِ
تبتسم عن كل زاهر أرج ... مثل الكمام ابتسمن عن زهر
ونمضي في مُدن الأندلس الخلابة مناظرها، والتي ولدت تراثاً أدبياً في الوصف – ولا غرو في ذلك – فقد قال المتنبي:
وما كنت ممن يدخل العشق قلبه ... و لكن من يبصر جفونك يعشق
ولّدتْ تراثاً ضخماً حوى الكثير من المعجم اللغوي يستطيع - من خلاله – الباحث أن يجد في الأندلس مكوناتها المادية وحتى أنواعاً شتى من الأزاهير ومسارات الأنهار وألوانها في أوقات النهار وتعدّد أشكال الجبال وألوانها وحتى تعرّجات الطرق التي تجمّلتْ برُصفٍ من نبتِ رُبا تنحدرُ من علوّ حتى تنهالُ على السهولِ شوقاً وعناقاً وتزدهي أكثرُ برفقة غيثٍ يجعلها – تلك الطرق – نهراً آخر. إنها جنات؛ وما أدلّ على ذلك إلا قول ابن (منبج) عمر بن أبي ريشة في فتاة الأندلس التي تفخرُ (بجنة الدنيا)
وثبتْ تَستقربُ النجم مجالا ... وتهادتْ تسحبُ الذيلَ اختيالا
وحِيالي غادةٌ تلعب في ... شعرها المائجِ غُنجًا ودلالا
طلعةٌ ريّا وشيءٌ باهرٌ ... أجمالٌ؟ جَلَّ أن يسمى جمالا
فتبسمتُ لها فابتسمتْ ... وأجالتْ فيَّ ألحاظًا كُسالى
وتجاذبنا الأحاديث فما ... انخفضت حِسًا ولا سَفَّتْ خيالا
كلُّ حرفٍ زلّ عن مَرْشَفِها ... نثر الطِّيبَ يميناً وشمالا
قلتُ يا حسناءُ مَن أنتِ ومِن ... أيّ دوحٍ أفرع الغصن وطالا؟
فَرَنت شامخةً أحسبها ... فوق أنساب البرايا تتعالى
وأجابتْ: أنا من أندلسٍ ... جنةِ الدنيا سهولاً وجبالا
يزدحمُ الشعراء في الأندلس حتى لاتكادُ تعدد مدينة أو جزيرة إلا ويخرجُ منها شاعر بارع.
وإذ يفقدون – الأندلسيون – وطنهم: جنتهم، هاهم يشيعون المجد وحينها تتراءى لهم صورة المدينة برسم الشعر المحفوف بالحزن حداءً وقوافل وضجيج. أمازالوا يتغنون؟! أم أنها نبرة الفراق المرّ هاجتْ فتكونت حالكة لكنها أبت إلا التشبّث بالمدينة؟
حان الوداعُ فضجّت كل صارخة ** وصارخٍ من مُفداة ومن فادِي
سارت سفائنُهم والنوْحُ يتبعها ** كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمعٍ وكم حملت ** تلك القطائعُ من قطعاتِ أكبادِ
- 3 - البادية -
ـ[حسنين سلمان مهدي]ــــــــ[21 - 11 - 2010, 11:23 م]ـ
أحسنت الاستنتاج أخي الكريم!
لكن قولك: (يبدو إن للماء سحر خاص) أظن أن صوابَه: (يبدو أنَّ للماء سحراً خاصًّا)! على أني أعذرك بسبب الانفعال الشديد الذي يولِّده الحديث عن مثل هكذا مواضيع آسرة!
إضافة إلى موضوعك أقول: إن البيئة بكل أشكالها تخلق الإبداع الملائم لطبيعتها، والمناطق المفتوحة المدى جغرافياً تولد خيالاً منفتحاً وثراءً تصويرياً عجيباً!
مدينتي التي نشأت بها في قلب بغداد وتدعى حالياً (الكرادة الشرقية) تغفو بين ذراعي دجلة فهو يلتف عليها بحنان، والكلام عن الطبيعة في موضوعك أثار في ذاكرتي نبضات الحنين!!
أحسنت وبارك الله فيك!
تقبل تحياتي!
ـ[السراج]ــــــــ[22 - 11 - 2010, 12:22 م]ـ
أحسنت الاستنتاج أخي الكريم!
لكن قولك: (يبدو إن للماء سحر خاص) أظن أن صوابَه: (يبدو أنَّ للماء سحراً خاصًّا)! على أني أعذرك بسبب الانفعال الشديد الذي يولِّده الحديث عن مثل هكذا مواضيع آسرة!
إضافة إلى موضوعك أقول: إن البيئة بكل أشكالها تخلق الإبداع الملائم لطبيعتها، والمناطق المفتوحة المدى جغرافياً تولد خيالاً منفتحاً وثراءً تصويرياً عجيباً!
مدينتي التي نشأت بها في قلب بغداد وتدعى حالياً (الكرادة الشرقية) تغفو بين ذراعي دجلة فهو يلتف عليها بحنان، والكلام عن الطبيعة في موضوعك أثار في ذاكرتي نبضات الحنين!!
أحسنت وبارك الله فيك!
تقبل تحياتي!
شكراً على ملاحظتك أخي حسنين.
وعلى إضافتك المثرية.