تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[26 - 03 - 2008, 06:59 ص]ـ

سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي - تابع >>>

ومهما يكن فإن الديوان لا يشير صراحة إلى هذه النبوة، فإن فيه قطعا تدعو صراحة إلى الثورة، ومن المحتمل أن شعره كان يحوي قطعا أكثر مما جمعه في ديوانه، ويمكننا أن نستنتج بعد هذا على الأقل أن المتنبي كان يدعو إلى الثورة في الإسلام، وأنه كان يخلط هذه الدعوة بأفكار دينية ..

وهو أمر يحملنا إنكاره على تجاهل الطور التاريخي الذي كانت تحدث فيه الثورات حينذاك إذ لم تكن توجد وسيلة لجذب الناس والتفافهم حول الداعي إلا هذه الوسيلة.

فنحن نعلم أن المتنبي لم يكن صاحب مذهب اجتماعي يساعد الناس على الالتفاف حوله، ثم أنه كان بعد شابا لم يستطع أن يكون له مثل هذا المبدأ ولم يكن معروفا كشاعر، ولذلك فإن منطق الحوادث يحملنا أن نسلكه في جملة الثائرين الدينيين الذين كثر ظهورهم في تلك الفترة من تاريخ الإسلام يؤيدنا في ذلك كثرة اتصال المتنبي بالقرامطة، وذكر آرائه في مدح رجل منهم واستعداده وشعره الذي يدل على استعداده للثورة فهو يقول:

لقد تصبرت حتى لات مصطبر = فاليوم أقحم حتى لات مقتحم

لأتركنَّ وجوه الخيل ساهمة = والحرب أقوم من ساق على قدم

والطعن يحرقها والزجر يقلقها = حتى كأن بها ضربا من اللمم

قد كلمتها العوالي فهي كالحة = كأنما الصاب معصوب على اللجم

بكل منصلت ما زال منتظري = حتى أدلت له من دولة الخدم

شيخ يرى الصلوات الخمس نافلة = ويستحل دم الحجاج في الحرم

إن تلك الأبيات التي يصرح فيها أبو الطيب عن عزمه على الثورة واستعانته بشيخ لا يتردد عن سفك دم الحجاج في الحرم، ويرى الصلاة نافلة تدل بصراحة على أن ثورته كانت ذات وجه ديني،،،

وهذا يحقق لنا قوة ادعاء المتنبي للنبوة، فالمتنبي لم يكن كاذبا حين أنكر أنه لم يدع النبوة، أي إنه لم ير أن يكون نبيا كمحمد ولكنه قام بحركة ذات فكرة دينية، فهو لم يكن طبقي الفكر، ولكنه أراد أن يتزعم حركة دينية تحقق له مطامحه متأثرا بآراء القرامطة من غير شك، ففشل فيها وسجن ولقب بعد سجنه بالمتنبي.

وقد أبدى في سجنه صبرا، فهو يقول مخاطبا سجانه أبا دلف:

أهون بطول الثواء والتلف = والسجن والقيد يا أبا دلف

غير اختيار قبلت برَّك بي = والجوع يرضي الأسود بالجيف

كن أيها السجن كيف شئت فقد = وطنت للموت نفس معترف

لو كان سكناي فيك منقصة = لم يكن الدر ساكن الصدف

ـ[الدكتور مروان]ــــــــ[26 - 03 - 2008, 07:04 ص]ـ

سِيرَةُ الْمُتَنَبِّي - تابع >>>

ولكن يظهر أن سجنه قد طال، وبسبب من اضطهاده وإلحاق الجوع والمرض والاغتراب عليه، كتب إلى والي حمص قصيدة يستعطفه بها ومطلعها:

أيا خدد الله ورد الخدود = وقدَّ قدود الحسان القدود

فهنَّ أسلن دمًا مقلتي = وعذبن قلبي بطول الصدود

وكم للهوى من فتى مدنف = وكم للنوى من قتيل شهيد

فواحسرتا ما أمرَّ الفراق = وأعلق نيرانه بالكبود

إلى أن يصل قوله:

أمالك رِقِّي ومن شأنه = هبات اللجين وعتق العبيد

دعوتك عند انقطاع الرجا = ء والموت مني كحبل الوريد

دعوتك لما براني البلاء = وأوهن رجلي ثقل الحديد

وقد كان مشيهما بالنعال = وقد صار مشيهما في القيود

وكنت من الناس في محفل = وها أنا في محفل من قرود

تعجل فيَّ وجوب الحدود = وحدّي قبل وجوب السجود

وقيل عدوت عن العالمين = بين ولادي وبين القعود

فما لك تقبل زور الكلا = م وقدر الشهادة قدر الشهود

فلا تسمعن من الكاشحين = ولا تعبأن بمحك اليهود

وكن فارقًا بين دعوى أردت = ودعوى فعلت بشأو بعيد

تلك الأبيات تدلنا على أن هناك أعداء كادوا للمتنبي فسجنوه، وأنه لم يفعل ما اتهموه به.

وقد أثارت القصيدة عطف الوالي عليه، فأخرجه من السجن وأطلقه واستتابه فيما يظهر، ولكن استتابته مما نسبه إليه العامة، ولم يكن بعسير على المتنبي أن يعلن توبته، وقد رأيناه أنه لم يدع هذه النبوة، وكانت الفترة التي قضاها المتنبي بعد خروجه من السجن فترة تشرد وفاقة وضعة وخمول كان يتصل بالوجهاء وأصحاب المكانة يمدحهم فلا يجيزونه على الشعر، إلا أهون الجزاء.

يقولون إنه مدح أحد الوجهاء بالقصيدة المشهورة التالية التي مطلعها:

بأبي الشموس الجانحات غواربا = اللابسات من الحرير جلاببا

فجزاه عليها دينارا. ولم تحسن حاله حتى قصد أنطاكية، واتصل هناك بالأمير أبي العشائر ومدحه بعدة قصائد كان أولها:

أتراها لكثرة العشاق = تحسب الدمع خلقة في المآقي

فقربه أبو العشائر وحسنت حاله عنده.

كان أبو العشائر هذا قريبا لسيف الدولة علي بن حمدان رأس الدولة الحمدانية، فيسر له الوصول إليه، وكان ذلك سنة 337هـ.

ودامت صحبة أبي الطيب للأمير ثمان سنوات، وخصص للشاعر ثلاثة آلاف دينار كل سنة عدا الهبات السخية والعطاء المتواصل من مال وثياب وخيول ومزارع، وخلد مقابل ذلك وقائعه مع الروم بقصائد قلَّ أن نجد لها نظيرا في الشعر العربي. ثم حدث ما عكر الصفو، فقصد الشاعر مصر ..

فالمتنبي وإن كان قبل اتصاله بسيف الدولة مغمورا ثم تبلورت حياته تبلورا واضحا بعد اتصاله به، إلا أن نفسه كانت تضطرم بثورة أكَّالة، وهو لم يزل في عنفوان الشباب، فقد شرَّق وغرَّب.

مكافحًا مناضلا، وعاش مع طموحه في صراع مرير يروي البديعي: كان أبو العشائر والي أنطاكية من قبل سيف الدولة، ولما قدم سيف الدولة أنطاكية قدم المتنبي إليه وأثنى عنده عليه وعرفه منزلته من الشعر والأدب واشترط على سيف الدولة أول اتصاله به أنه إذا أنشده مديحه لا ينشده إلا وهو قاعد وأنه لا يكلف تقبيل الأرض بين يديه.

ودخل سيف الدولة تحت هذه الشروط وتطبع إلى ما يريد منه وذلك في سنة 337هـ وحسن موقعه عنده فقربه وأجازه الجوائز السنية ومالت نفسه إليه وأحبه فسلمه للرواض فعلموه الفروسية والطراد والمثاقفة ...

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير