[اختلاف المعاني باختلاف الأدوات]
ـ[أم زينب]ــــــــ[07 - 08 - 2007, 06:17 ص]ـ
لقد أدرك الفقهاء والمفسّرون والمحدّثون أهمية ارتباط العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية كافة، فأقبلوا على دراسة علوم اللغة والنحو، مما جعلنا نرى الكثير منهم يولون الدراسات اللغوية والشرعية عنايتهم على حدٍّ سواء، مبيّنين أثر أحدها على الآخر، وقد اهتم أكثرهم بالبحث في باب الأدوات وتأثيرها في استنباط الأحكام الشرعية أو في اختلاف تفسير معاني الآيات، وكان من ثمرات هذا الجهد العلمي العديد من المؤلفات التي وضعها العلماء سواء منها التي انفردت بالبحث في ذلك الدرس النحوي مثل كتاب "معاني الحروف والأدوات" المنسوب إلى ابن القيّم (751هـ)، أو التي خصصت أبوابًا لهذا الموضوع ضمن أبحاثها مثل كتاب "البرهان في علوم القرآن" للزركشي (794هـ)، و"الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (911هـ)، وغيرهم كثير.
يقول الإمام السيوطي مبرهنًا أهمية معرفة معاني الأدوات التي يحتاج إليها المفسّر: "اعلم أن معرفة ذلك من المهمات المطلوبة لاختلاف مواقعها، ولهذا يختلف الكلام والاستنباط بحسبها، كما في قوله تعالى: ?وإنّا أو إياكم لعلى هدًى أو في ضلال مبين? فاستعملت (على) في جانب الحق، و (في) في جانب الضلال، لأن صاحب الحق مستعمل يصرف نظره كيف يشاء، وصاحب الباطل كأنه منغمس في ظلام منخفض لا يدري أين يتوجّه"، فـ (على) أفادت الاستعلاء، أما (في) فقد أفادت الظرفية المكانية.
وهذه أمثلة أخرى من آيات الذكر الحكيم على اختلاف المعنى باختلاف الأداة مع اتّفاق اللفظ، وهي غالبًا مما نثره العلماء والمفسّرون في كتبهم.
قال تعالى: ?يُؤمِنونَ بِما أُنزِلَ إلَيكَ? [البقرة/4] ....
وقال في موضع آخر: ?أنزَلَ عَلَيكَ الكِتابَ? [آل عمران/7] ....
حيث قصد تعميمه وتبليغه وانتهاءه إلى عامة الأمة قال: (إليك)، وحيث قصد تشريفه وتخصيصه به قال: (عليك)، وذلك لأن (على) مشعر بالعلو فناسب أول من جاءه بالعلو وهو النبي ?. و (إلى) مشعرة بالنهاية فناسب ما قصد به هو وأمته، لأن (إلى) لا تختص بجهة معينة ووصوله إلى الأمة كذلك لا يختص بجهة معينة.
قال تعالى: ?ولا تُؤتوا السُّفَهاءَ أموالَكُمُ الّتي جَعَلَ اللهُ لَكُم قِيامًا، وارزُقوهُم فيها، واكسوهُم، وقولوا لَهُم قَولاً مَعروفًا? [النساء/5]
وقال في موضع آخر: ?وإذا حَضَرَ القِسمةَ أولو القُربى واليَتامى والمَساكينُ فارزُقوهُم مِنهُ، وقولوا لَهُم قَولاً مَعروفًا? [النساء/8]
فالضمير في قوله: ?ارزقوهم فيها? يعود على أموال اليتامى السفهاء التي جُعلت وصايتها إليكم، فالأموال كلّها لهم وليس عليكم أنتم إلا أن تقوموا بحفظها وتتاجروا فيها وتثمّروها لهم. قال الإمام الرازي في تفسيره:"وإنما قال: (فيها) ولم يقل: منها، لئلا يكون ذلك أمرًا بأن يجعلوا بعض أموالهم –أي أموال اليتامى- رزقًا لهم، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكانًا لرزقهم، بأن يتّجروا فيها ويثمّروها، فيجعلوا أرزاقهم من الأرباح لا من أصول الأموال". فجاءت (في) للظرفية المكانية ولم تأت من لئلا تفيد التبعيض.
أما في الآية الثانية فالضمير (منه) عائد على أموالكم التي تقومون بقسمتها، فأمر الله مَن يقسم أن يعطيَ منها نصيبًا للذين يشهدون هذه القسمة من أقرباء وفقراء ومساكين فـ (من) هنا للتبعيض.
قال تعالى: ?يُحَرِّفونَ الكَلِمَ عَن مَواضِعِهِ? [النساء/46] و [المائدة/13]
وقال في موضع آخر: ?يُحَرِّفونَ الكَلِمَ مِن بَعدِ مَواضِعِهِ? [المائدة/41]
إن الأولى هنا ربما أريد بها التحريف الأول عند نزول التوراة نحو تحريفهم في قولهم موضع (حِطّة): حنطة، وشبهَ ذلك فجاءت (عن) لذلك. والآية الثانية لتحريفهم في زمن النبي وتغييرهم عن المقول لهم في التوراة بغير معناه كأنه قال: من بعد ما عملوا به واعتقدوه وتدينوا به، كآية الرجم ونحوها، فـ (عن) لما قرُب من الأمر و (بعد) لما بعٌد.
قال تعالى: ?أوَلَم يَنظُروا في مَلَكوتِ السَّمواتِ والأرضِ وما خَلَقَ اللهُ مِن شَيءٍ? [الأعراف/185]
وقال في مواضع أخرى: ?انظُروا إلى ثَمَرِهِ إذا أثمَرَ ويَنعِهِ? [الأنعام/99]- ?أفَلَم يَنظُروا إلى السَّماءِ فَوقَهُم كَيفَ بَنَيناها وزَيَّنّاها ما لَها مِن خُروجٍ? [ق/6]- ?فَليَنظُرِ الإنسانُ إلى طَعامِهِ? [عبس/24] ......
جميع الآيات التي أمرت بالنظر إلى ما خلق الله والاعتبار به والاستدلال على وجوده وقدرته والتي قرّعت ولامت مَن لم يتفكّر في خلقه وبديع صنعه جاء الفعل (نظر) فيها متعدّيًا بالأداة (إلى) إلا في الآية الأولى تلك، وذلك لأن الأمر بالتفكّر في الآيات جميعها كان بالنظر إلى شيء واحد من خلق الله، إلى سماء أو إبل أو ثمر أو غيره، فـ (إلى) في تلك الآيات جاءت لانتهاء الغاية المكانية.
أما التعدّي بـ (في) فقد ورد مع الأمر بالنظر والتفكّر في خلق الله كله وملكوته الواسع الذي يشمل السموات والأرض وما تحتويانه من كواكب ونجوم وبحار وجبال ومخلوقات و .... فجاءت (في) للدلالة على الظرفية المكانية بشمولها وسعتها.
قال تعالى: ?كُلٌّ يَجري إلى أجَلٍ مُسَمًّى? [لقمان/29]
وقال في موضع آخر: ?كُلٌّ يَجري لأجَلٍ مُسَمًّى? [الرعد/2] و [فاطر/13] و [الزمر/5]
في الآية الأولى تقدّم ذكر البعث والنشور في قوله تعالى: ?ما خَلقُكُم ولا بَعثُكُم ... ? وجاء بعدها: ?يا أيُّها الناسُ اتّقُوا رَبَّكُم واخشَوا يَومًا ... ?، مما ناسب مجيء (إلى) الدالة على انتهاء الغاية، لأن القيامة غاية جريان ذلك.
أما في الآيات الأخرى فقد تقدّمها ذكر نعم الله تعالى بما خلق لمصالح الخلق فناسب المجيء باللام بمعنى: لأجل، والله أعلم.
¥