تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهناك عدة أصناف من النساء اللواتي عاشرن العباقرة. فهناك أولاً المرأة التي تحمي زوجها وترعاه وتوفّر له الجو المنزلي الهادئ لكي يشتغل ويبدع، دون أن تكون لها هي أي علاقة بالكتابة أو الإبداع. وهذه هي الحالة العامة في الواقع. من هذه النساء نذكر زوجة الكاتب الإيرلندي الشهير جيمس جويس. ففي عام 1904 حيث كان لا يتجاوز الإثنين وعشرين عاماً التقى جويس بالصدفة في أحد شوارع دبلن بفتاة شقراء رائعة تدعى نورا بارانكل. وكانت خادمة في أحد الفنادق ولا علاقة لها بالثقافة والمثقفين، ولكنها كانت ذكية ويقظة جداً. فأحبها على الفور وأصبحت صاحبته ثم زوجته حتى آخر يوم من حياته. وعلى الرغم من أنها كانت غريبة جداً على إبداعه ولا تعرف حتى ماذا يكتب إلا أنها أمّنت له جو الهدوء والحنان والأنوثة، هذا الجو الذي ساعده على أن يصبّ على الورق كل ما يعتمل في نفسه. وبالتالي فكانت ملهمته ولكن بشكل غير مباشر ودون أن تكون قادرة على فهم إبداعه بل وربما لم تقرأ كتبه على الإطلاق. فالمرأة الرائعة ليست فقط المثقفة، وإنما هناك ثقافة أخرى لا تقل أهمية هي: الحضور الأنثوي وثقافة الحياة.

وعلى الرغم من أن جويس كان فقيراً على الأقل في مراحله الأولى، إلا أن زوجته رافقته في كل تشرده وضياعه وصبرت على الفقر والحرمان معه، ومن أجله. وفي الصباح كان جويس يستيقظ متأخراً ثم يقضي كل يومه في انتظار الكلمات وتركيب العبارات وتسجيلها على الورق. وكانت نورا تستغرب هذه العادة السيئة ولا تفهم كيف يمكن للمرء أن يقضي كل يومه في البحث عن الكلمات ... وكانت تتساءل لماذا يسرف في استخدام كل هذا العدد الكبير من الصفحات؟ لماذا يسودها ويمزقها أكثر من مرة؟ ولكن بما أنها كانت تحبه فإنها كانت تصبر عليه وتقبل هذه النقيصة منه. ولم يكن يزعج جويس إطلاقاً أنها لا تهتم بما يكتب ولا حتى بالأدب بشكل عام. فهو يريد منها المرأة المشتهاة والمرأة فقط، وما عدا ذلك تفاصيل .. بل ربما كان يريحه أنها لا تعرف ماذا يكتب لأن ذلك كان يشعره بحرية أكبر في خلوة الكتابة. كانت امرأته صافية، نقية، لم تلوثها رطانة الثقافة والمثقفين أو بالأحرى المثقفات المتصنعات المتحذلقات. كانت تمثل الوجه الآخر للحياة، الوجه الذي ينقصه أي الوجه الخام إذا جاز التعبير، وهذا كل ما كان يريده منها. في الواقع إن نورا هي مولي زوجة بلوم، بطل رواية عوليس الشهرة. هكذا نجد أن زوجته ألهمته إحدى أهم روايات القرن الماضي دون أن يكون لها أي علاقة بالأدب. وعاشت معه بكل سعادة وهناء حتى مات عام 1941. وعلى الرغم من أن ابنتها التي أنجبتها منه جُنَّت إلا أنها اعتبرت نفسها محظوظة إذ عاشت مع هذا الرجل طيلة سبعة وثلاثين عاماً. وماتت بعده بعشر سنوات فقط، وهي لا تزال وفيّة لذكراه.

لننتقل الآن إلى مدام تشارلز ديكينز. من المعلوم أن الكاتب البريطاني الكبير صدم عندما رفضته الفتاة التي أحبها بشكل جنوني في بداية شبابه، وذلك لأنه فقير و"لا مستقبل له" بحسب رأيها. لم تكن تعرف أن العبقرية تكمن كالنار في جوانح هذا الشاب المعدم الذي لم يعرف طعم الحياة بعد. بعدئذ تعرف على "كيت" أي تلك الفتاة التي ستصبح زوجته لاحقاً. ولكنه لم يعد يؤمن بالحب الولهان بعد أن ذاق طعم الفشل والمرارة في تجربته الأولى مع النساء. أصبح أكثر حذرا. ومع ذلك فقد قرر أن يتزوجها لأنها كانت "بنت عائلة" كما يقال. وكان هو يعاني من الأصل الوضيع والفقير لعائلته، بل وكان يخجل من أن يذكر أصله ونسبه من شدة فقره. ثم أصبحت كيت هذه زوجته وأم أطفاله العشرة. وكلما حبلت بطفل، حبل هو برواية عظيمة أوصلته إلى ذروة الشهرة والمجد. وهكذا كان يولد كل سنة في بيته طفلان: طفل حقيقي، وطفل إبداعي إذا جاز التعبير.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير