محاولةٍ. وكذلك الكسرُ، بخلافِ الضربِ؛ فإنه خارجٌ عن الحدِّ؛ إذِ الأشياءُ تتساوى طبائعها في قَبولِ الضربِ؛ فليس يمتنع على الضربِ شيء؛ إلا أن يكونَ ذلك راجعًا إلى غيرِ الطبيعةِ، كضعفِ مريدِ الضربِ، أو قوةِ المرادِ ضربُه؛ فلذلك لا تقولُ فيه (انضربَ)؛ ولذلك خطئوا قولَ بعضِهم (انعدمَ). ووجهُ كونِ هذه العلةِ مقتضيةً بناءً للمطاوعةِ أنها لما كانت تتفاوتُ كانَ السامعُ يترقبُ عاقبةِ الفعلِ؛ فإذا قلتَ: (سحبتُ السيارةَ) – مثلاً – لم يُدرَ أطاوعتك فانسحبت أم لم تطاوعك؛ فلذلك كان مناسبًا الإتيانُ بهذا البناءِ. فإن كانَ الفعل قابلاً معنى المطاوعة الذي ذكرنا فإن لك أن تبنيَه قياسًا من خمسةِ أنواعٍ من الفِعلِ؛ الأول: من (فعَلَ) المتعدي؛ فتجعله على (انفعلَ)، إلا أن تكونَ فاؤه لامًا أو ميمًا أو نونًا أو راءًا أو واوًا، وإلا أن يُسمَع له (افتعلَ) مطاوِعًا؛ قال ذو الرمةِ:
سيلاً من الدِّعصِ أغشته معارفَها ** نكباءُ تسحبُ أعلاهُ فينسحِبُ
... ) ا. هـ.
فإذا تبيَّن لك معنى المطاوعةِ، فهل (بغَى) يقبلُ هذا المعنى، ولِمَ قالوا: (بغاه فانبغَى)، ولم يقولوا: (طلبه فانطلب).
الجواب:
نعم؛ فإنا نجده يقبلُ معنى المطاوعةِ. و (بغَى) أخصُّ من (طلبَ) من قِبَلِ أنه يقتضي الطلبَ بالعملِ الظاهرِ الدائبِ؛ ولذا قالَ تعالى: ((يبغونكم الفتنةَ)) [التوبة:]، و ((ويبغونها عوجًا)) [الأعراف: 45]. أما (طلبَ) فتقتضي رغبةَ القلبِ ومرادَه؛ سواءٌ صدَّقَ ذلك العملُ أم لا. فهذا فرقُ ما بينهما؛ ولذلك جاءَ لـ (بغى) مطاوعٌ، ولم يأتِ لـ (طلبَ). وفي هذا ردٌّ على الزجاجِ؛ إذ زعمَ أن علةَ ذلك استغناؤهم بـ (انبغَى) كما استغنوا بـ (ترك) عن (وذرَ). وذلك أن علةَ الاستغناءِ علةٌ كالاعتباطيةِ؛ لا تنقادُ؛ إذ ليس شيءٌ من الكلامِ أولى بها من الآخَر. ومتى أمكنَ العدولُ عنها كانَ أجدرَ.
وعلى هذا يكونُ المعنى (بغاه فانبغَى) إذا طلبَه بالعملِ فانقادَ له وأمكنَه وتيسَّر له. والأشياءُ تتفاوتُ بطبائعِها في هذا؛ فمنها ما ينقادُ لكَ إذا بغَيتَه بعملِك، ومنها ما لا ينقادُ؛ قال رؤبة:
فاذكرْ بخيرٍ وابغِني ما ينبغي
ولها معنيانِ؛
الأول: حقيقيٌّ، جارٍ على وجهِ القياسِ. وتأويله (لا يمكن ولا يتيسَّر).
الثاني: مجازيٌّ، على جهةِ الاستعارةِ المكنيَّةِ. ومنه قولُنا: (لا ينبغي للمسلم أن يعصيَ ربَّه)؛ كأنك شبهتَ الشيء المفترضَ ألا يكونَ في الواقع بالشيء الذي لا يكونُ في الواقعِ. فحذفتَ المشبه به، ورمزتَ له بشيء من لوازمه؛ وهو (لا ينبغي). وفي هذا بلاغةٌ ظاهرةٌ، ودلالةٌ مبينةٌ على أنَّ عصيانِ اللهِ الحقُّ فيه أن يكونَ كالمعدومِ. ومثالُ هذا ما روي عن عائشةَ رضي الله عنها أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: (لا يكونُ لمسلمٍ أن يهجرَ مسلِمًا فوقَ ثلاثةٍ) [رواه أبو داود]. ومثالٌ آخرُ لو قلتَ: المسلِم لا يستطيعُ أن يكذبَ. وهو في الواقِع يستطيعُ؛ ولكنَّك شبهتَ امتناعَ الكذب عليهِ بسببِ دينِه، بما يمتنعُ عليه في الواقعِ لو حاولَه.
هذا أصلُ معناهُ. أما استعمالُه بمعنى (لا يحسُن ولا يليقُ) فمعنًى مفهومٌ من المعنى الأصليِّ؛ فإنَّك إذا قلتَ: (لا ينبغي كذا) تريدُ (هذا كالشيء الذي لا يُمكن في الواقع فِعلُه)؛ استلزم هذا أن فِعلَه مع أنه كالشيء الذي لا يُمكِنُ في الواقعِ (لا يليقُ ولا يحسُن)؛ يُفهم هذا المعنى من طريقِ دَِلالةِ اللزومِ.
أما زعْمُ بعضِ الجهلةِ أن ما تقدمَ خطأ، وأن الصوابَ (ينبغي للمسلم ألا يفعلَ كذا) فسفَهٌ وحُمقٌ، لأنَّ فيه عُدوانًا على كلامِ الله تعالى، وكلام رسوله صلى الله عليه وسلمَ!
ولو كانَ كما يقولُ لقيل: (ينبغي على المسلمِ ألا يفعل كذا) بـ (على). وهو خطأ شائعٌ لا وجهَ له من مجازٍ أو تضمينٍ. وقد وقع فيه بعضُ العلماءِ، كالثعالبيِّ في (الإعجاز والإيجاز) ناقلاً عن بعضِهم؛ قالَ: (ينبغي على الملك أن يعتني بملك رعيته كعنايته بملكه)؛ فلا أدري أكانَ نقلُه باللفظِ أم بالمعنى!
---
والاستدلالُ لقولِ (لا ينبغي) بالمعنى الحقيقي أو المجازي من سُبُلٍ عدةٍ:
¥