تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[" نذالة "]

ـ[محمد عبد الغفار صيام]ــــــــ[08 - 10 - 2009, 11:37 م]ـ

[" نذالة "]

ولذت بكفى المتصلبتين كلوحى ثلج فى فتحتى بنطالى؛ أنشد دفئا أو بعض دفء، وقد اصطدمت أناملى بورقة مالية من فئة الجنيه بملمسها الناعم وقوامها الرقيق، كانت هى كل مدخراتى فى ذلك اليوم، فرحت أداعبها يمنة ويسرة؛ إذ كان وجودها يشعرنى بثقة تلف كيانى، فبها أحقق حلمىّ بالدفء والشبع سأنقد نصفها لذلك القابع خلف شباك التذاكر، وشطرها الباقى يكفى لابتياع ما يسد جوعى من حبات الفول الساخن؛ لقمع هذه المعدة اللحوحة وتبديد ثورتها المتأججة.

يبدو أن جيش البرد قد راقه أن يدفع بفيالقه؛ لتلفحنى بين الفينة والفينة بسياطها الثلجية المؤلمة، فقررت كإجراء مضاد أن أّذرع الرصيف ذهابا وإيابا، وراقنى اكتشاف تلك العوالم المجهولة ــ على الأقل بالنسبة لى ــ فطرف الرصيف الآخر لم تطأه قدماى قط،إذ لم أكن من محترفى أو حتى من هواة ركوب الدرجات الفاخرة.

أذعنت و أطعت قدماى، حيث الطرف الآخر بأرضه النظيفة اللامعة، ومصابيح النيون البيضاء الزاهية، وذلك المقهى الراقى بمقاعده اللينة الوثيرة، التى تدعوك إلى الجلوس وملحقاته، وزهدت فى الجلوس لا كرها فيه بالطبع ولكن خوفا من ملحقاته.

حاولت أن أقترب من باب المقهى؛ لعلى أصيب من موجات الهواء الدفيئة المتتالية والمندفعة من جهاز التكييف الداخلى، وأثناء اتخاذى لوضع يرضينى ولا يلحظ أمام الباب، لمحت عيناى داخله سيدة تسكن تحت قبو من الفرو الثمين، تتدلى من يدها اليسرى سلسلة بيضاء فضيةلامعة، يتدلى طرفها الآخر من طوق جلدى يغوص فى عنق غزير الشعر لكلب بحجم الحمار، وقد أقعى تحت قدمى سيدته وتهيأت أمامه مائدة عامرة بشرائح اللحم والبولوبيف والشاورمة؛ حيث تتصاعد خيوط البخارالساخنة تتراقص فى انسيابية مثيرة لى ولأمثالى من بنى البشر، بينما انشغلت يدها اليمنى بكوب من الحليب الساخن، وهى ترشف منه فى لا مبالاة، وأخال أن لا رغبة لها فيه، ولكنها تصرع به الوقت وهو يمروئيدا وئيدا.

وفى غمرة إنشغالى بمراقبة الكلب الذى يأكل بتأن وبطء يثيرأعصابى؛ كأن شهيته عافت تلك الألوان المعتادة من الأطعمة؛ فهو يزدرد القطعة من اللحم بلا أهتمام أو مبالاة، فتارة يتسكع فى محيط سيدته وتارة يتمسد بها ويحييها بذيله، وتارة يركز النظر فى غير اتجاه معين إذ ظهرت على باب المقهى طفلة صغيرة، تبدو فى نهاية عقدها الأول، بوجه أصفر كالح يضرب للزرقة، وعينين منكسرتين لامعتين لمعانا حزينا، غائرتين وسط وجه ممصوص شاحب سقيم، يناسب جسدا نحيلا يغوص فى جلباب من القطن الردىء، وقد بهتت أطرافه وتهرأت، فضلا عن ثقوب توزعت عليه فى غير انتظام، تسير بقدمين عاريتين تغمرها ارتجافات تنخلع لها القلوب رحمة وشفقة.

صوبت الفتاة نظرات الاستجداء إلى مائدة الكلب العامرة، وبدت مقطوعة الحواس عن العالم الخارجى، بألوانه وأصواته، لاحظتها صاحبة الكلب راشقة إياها بنظرات اشمئزاز وشمم، ولوت شفتيها ليا ينم عن شعور بالقرف، أخذت الفتاة تتقدم بخطوات لاإرادية وإن كانت حذرة نحو مائدة الكلب المحظوظ، كأن هناك قوة خفية تجذبها؛ فهى مسيرة لا مخيرة.

وفى تطور غامض لهذا الموقف المتأزم،أخذت السيدة تجذب السلسلة ردا على تقدم الفتاة، بينما الكلب منصاع تبدو عليه ِأمارات البله، حتى إذا ما اتسع المجال للفتاة وقد اقتربت من شرائح اللحم إلا خطوتين أو ثلاث، كان الكلب لصيق سيدته وأضحى ذلك بمثابة الضوء الأخضر للفتاة لتمارس متعتها بازدراد ما يمكنها ازدراده، فانسابت ركبتاها رغما عنها، وانكبت على الأرض فى وضع القرفصاء، و ما أن مدت يدها واقتربت أناملها من اللحم أو كادت حتى أرخت السيدة لكلبها العنان فجأة! وأومأت له إيماءة على إثرها انقض جاثما فوق الفتاة كالأسد الهصور؛ فارتاعت الفتاة وانسلت من بين مخالبه وأنيابه بأعجوبة، وانطلقت مثخنة بجراحها تبكى نذالة البشر، وجنة لفظتها قبل أن تدخلها، بينما صاحبة الكلب تقهقه قهقهات رنانة وتضحك ملء شدقيها السمينين، وكلبها قد صعد بقدميه الأماميتين يلعق سحنتها بلسانه، ويحيّ فيها تلك الخسة والنذالة، بينما تحتضنه وتدسه تحت فروها الغليظ.رغما عنى كتمت غيظى، وتبعت الفتاة أعدو؛ لأمسح حزنها وأداوى فجيعتها، بينما تنفرط العبرات على خدىّ بطعمها الملحى، حتى ألفيتها انزوت فى أحد الأركان المظلمة، فوجدتنى فى رضاء تام، و رغبة عارمة اتخلى عن معطفى، و أطرحه فوق الجسد المرتجف، وجلت بأناملى فى جيبىّ، أخرجت كل ما فيهما من قروش زهيدة، دسستها فى يدها، وتناهى إلىّ صوت القطار يأذن بالرحيل فتركتها وشهقاتها الحزينة لا تفارق مسمعى، حتى أدركت القطار فصعدته واستويت، ورغم تخلىّ عن معطفى ومدخراتى ومن ثمِّ شعرت لحظتئذ بدفء وشبع لم أشعر بهما قط من قبل.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير