وإذا تبين لك ذلك كله , وكان ثمة رغبة في الكتابة , وشعور قوي بالموضوع , أصبح من الممكن – ما دام الهدف من المقالة واضحاً في ذهنك قبل الشروع في كتابتها – أن تضع الفكرة الرئيسة للمقالة في مستهلها , لتقيم عليها بناء الموضوع (عرض الفكرة – علاجها). وتتجلى مقدرتك في إظهار النواحي التي تثير الاهتمام بموضوعك , وإهمال التفصيلات المملّة التي تطيل المقالة دون أن تضيف جديداً؛ فالاعتدال في الطول عامل مهم في كسب القارئ , الذي كثيراً ما يُعرض عن المقالات التي يحولها أصحابها إلى ما يشبه البحوث القصيرة. فالمقالة ليست مجالاً للاستطراد المملّ , أو حشد المعلومات؛ ولذلك لا يشترط فيها أن تشمل كل الحقائق والأفكار المتصلة بموضوعها , بل يكفي اختيار الجوانب المهمة في الموضوع وتسليط الضوء عليها من خلال عرضها بطريقة مشوقة تثير اهتمام المتلقي.
ولا يمكن وضع طول محدّد للمقالة؛ لأنها تطول وتقصر حسب الموضوع وحالة الكاتب , ولكن الطول التقريبي لها أن تتراوح ما بين صفحة وأربع صفحات , فقد تقلّ المقالة فتكون في صفحة واحدة (250كلمة) , أو تطول حتى تصل إلى أربع صفحات (1000كلمة) , هذا إذا افترضنا أن في السطر الواحد (10كلمات)، وفي الصفحة الواحدة (25سطراً) , وهي نسبة تقريبية؛ إذ إن بعض الأسطر قد يحوي – مثلاً - (12كلمة)، وبعض الصفحات تزيد على (25سطراً) , أو تقلّ , فالغرض من هذا التوضيحُ؛ لئلا تقلّ المقالة فتشبه الخاطرة , أو تزيد فتصير بحثاً.
ومن عوامل النجاح في كتابة المقالة رهافة الحسّ , وسلامة الذوق , وسعة الزاد الثقافي , والانفتاح على الجديد؛ ذلك أن توافر هذه الصفات مدعاة لالتقاط الموضوعات المهمة , التي تسترعي انتباه الثقافات المختلفة للقراء. وهذا ليس بالأمر اليسير؛ لأن فهم نفسية القارئ , واختيار ما يثيره مادةً للمقالة بحاجة إلى ذوق سليم , وإحساس مرهف , وثقافة تقودك إلى التنوع في الطرح , وحسن العرض.
وقديماً قال العرب: ((لكل مقام مقال))، وعدّوا بلاغة الكلام أن يناسب الحال التي يقال فيها؛ من أجل ذلك ينبغي التفريق بين المقالة الذاتية التي يُعبَّر من خلالها عن أحوال النفس وبين ما يُكتب لغايات اجتماعية , فالنوع الأول خطاب للأدباء والمثقفين , ومادام الأمر كذلك فلا بأس أن يكون عليه مسحة من غموض , أما ما يكتب لغايات اجتماعية تهمّ فئات عديدة في المجتمع فيجب أن يكون واضحاً؛ ليسهل الوصول إلى الهدف الذي من أجله سطرت المقالة.كما أن إعطاء المقام حقه يقضي باستخدام الأسلوب الجزل في مواطن الشدة , والأسلوب الرقيق في مواطن اللين. والمقالة تقدم من يكتبها كما تقدم موضوعَه , وقد نتعرف على شخصية الكاتب من خلال أسلوبه، فـ (الأسلوب هو الإنسان نفسه) كما يقول المفكر الفرنسي (بوفون).
وعنوان المقالة هو الإشارة الأولى الموصلة إلى الشخصية الكاتبة؛ ذلك أن اختيار العنوان الجيد يحتاج إلى مهارة في انتقاء الألفاظ والإيماءات اللماحة التي تثير اهتمام القارئ , فتحرك جانب التطلع عنده؛ لكشف ما وراء هذا العنوان. والأولى أن يكون اختيار العنوان بعد الانتهاء من كتابة المقالة , وأن يكون قصيراً , معبراً عن فكرتها الرئيسة , بعيداً عن العناوين التعليمية المباشرة , سواء أكان من إبداعك أم من اختيارك؛ إذ من الممكن أن تطلّ فكرتك على المتلقّي من خلال حكمة موحية , أو مثل سائر , أو جزء من بيت شعري.
والتحلي بالتؤدة والصبر خير زاد لمن يتطلع إلى الاستقلال بشخصية كتابية مميزة؛ إذ إن أفكارك قد تنثال على الورق في موقف من المواقف , فتشعر حين قراءتها مرة ثانية – بعد اختمار التجربة - أنك بحاجة إلى استبدال كلمة , أو تغيير عبارة , أو إعادة بنائها , أو حذفها , حينئذ لا تقلق؛ لأنه أمر طبعيّ , فقد تحتاج إلى مسودة وثانية , بل وثالثة إذا لزم الأمر. ولا تتسرع في النشر إن أردت أن تُسلك في عداد المبرزين في هذا اللون من الأدب، وهم قلّة؛ وما ذاك إلا لندرة القادرين على المواءمة بين التجربة والصياغة , أي الذين يملكون مقدرة لغوية توازي عواطفهم المتوهجة.
ولا شكّ أن الوصول إلى ذلك ليس بعزيز المنال على من يمضي في هذه السبيل بعزيمة صادقة , متسلحاً بالقراءة الجادة لكبار المبدعين في أدبنا العربي , مدركاً أن الانفراد عن مواقف الأشباه لا يتحقق إلا من خلال المراس والدربة على اقتحام مجاهل هذا الفنّ.
ومن الأدباء الذين ينبغي أن يكونوا في مقدمة من يُقرأ لهم: طه حسين , عباس محمود العقاد , مصطفى لطفي المنفلوطي , مصطفى صادق الرافعي , أحمد حسن الزيات , أحمد أمين , إبراهيم عبد القادر المازني , جبران خليل جبران , ميخائيل نعيمة , ميّ زيادة؛ لأن الكتابة الفنية التي تمتاز بالتدفق , والعفوية , والإشراق , ومتانة اللغة , هي الجامع بين هؤلاء، على الرغم من اختلاف مشاربهم وأنماط أساليبهم.
¥