[قصة الآي آي ليوسف إدريس]
ـ[ليلى العامري]ــــــــ[18 - 10 - 2006, 07:50 م]ـ
أتمنى أن تعجبكم
تفضلوا
لم تكن بالضبط صرخة ولكنها كانت الأولى بعد منتصف الليل بقليل، تصاعدت، غير آدمية بالمرة. حتى الحيوان ممكن إدراك كنه صوته. ولكنها بدت لأول وهلة جمادية ذات صليل. كعظام تنكسر وتتهشم تمسكها يدا عملاق خرافي القوة وبنية صارمة لا رحمة فيها تدشدشها .. فجأة وفي المنزل الهادئ المظلم الفاخر الإظلام، السابح في سكون مسود تلمع فيه حواف الموبيليا الأنيقة الموزعة بعناية وذوق، بيت ساكن نائم يرفل في رائحته الليلية الخاصة التي تميزه عن أي بيت، وفي الحي المترف الذي تتثاءب نوافذه وأضواؤه واحدة وراء الأخرى ويؤوب إلى الرقاد على ضجة المدينة ووسطها المستيقظ كغمغمة غارق في الأحلام.
وفي وسط هذا كله، ومن مكان لا تستطيع تحديده أو تعرف إن كان يمت حتى إلى الحي. تصاعد ذلك الشيء الغريب الغامض الأول، مفاجئا وكالطعنة الملتاثة، حافلا بأنين التمزق، وكأنه صادر من حنجرة تتمزق أحبالها الصوتية لتصدر الصوت ويكاد يمزق طبلة أي أذن يقع عليها.
ودونا عن سكان الحي والبيت، بدا وكأنه الكائن الوحيد الذي سمعه، كان مغمض العينين لا يزال بينه وبين النوم مشكلة لا بد لها من حل، ومر الصوت مفاجئا غير مألوف من الصعب تبينه ولكن جسده في اللحظة التالية كان يقشعر بخوف طفلي مذعور وإن لم يتسغرق زمنا. أسلمه إلى عينين مفتوحين لآخرهما وقلق وعاصفة من الاضطراب، فالإحساس التالي الذي واتاه كان إحساسا بالذنب، شعور غامض يربطه بالصوت، ويؤكد أن الصلة بينهما من صنعه ومسؤوليته، وأن عليه وحده يقع التحمل للنهاية، وبالغريزة التفت كانت زوجته لا تزال على وضعها ففقط في اللحظة التي التفت فيها ماءت مواء طال بعض الشيء، ثم بإرادة نائمة انتقلت إلى جنبها الأيسر وقربت ساقها، ربما كان الأثر الوحيد الذي أحدثه الصوت في جسدها المستسلم لأول مراحل النوم، وارتاح وبعض الشيء اطمأن وهو يواجه الأمر وحده، فقد كان ظهورها على المسرح لحظتها كفيلا بزيادة ارتباكه. ما هذا الصوت ومن أين جاء؟
في لحظة مر بخياله ألف احتمال إلا الاحتمال الوحيد الذي كان يخاف مروره. لم يكن قد تغير في البيت أو في الحي أو في دنياه كلها شيء ما عدا ذلك الشيء الواحد الذي اغتم له، ولا بد أن يكون الصوت الجديد من صنع القادم الجديد حتى ولو نفى عقله بشدة وأبي أن يصدق.
ولم يشأ أن يفكر أكثر مجرد صوت وحدث، المهم ألا يعود يحدث، ومر بعض الوقت، أحال اللحظة إلى دقيقة، أو دقائق، ولا شيء يتغير داخل الليل الساكن، والأمل يقوي ...
ولكن وشوشة غامضة حدثت، اندفع منها إلى أعلى فجأة صوت كالطوفان الهادر العمودي له وقع العظام نفسها وهي تحق وتتدشدش، صوت أقرب إلى رعد تنفثه السماء في ماسورة مكتومة، ما لبثت أن فتحت وسلكت في استغاثة راعدة مولولة ممدودة يخاف صاحبها أن ينهبها وكأنما الموت عند نهايتها.
انتهى الأمر، لم تعد هناك فائدة.
كان هذا الصوت الثاني مزعجا حقا حتى أنه، مع علمه هذه المرة وتأكده من مصدره، لم يستطع كبح جماح ارتجافته، ليس خوفا منه، وإنما من الشيء المجهول المروع الذي يختفي لا بد وراءه ويحدثه، مزعجا ومحيرا إلى درجة لم يلحظ معها أن رفيقة الفراش قد اعتدلت نصف اعتدالة والتفت إليه قائلة بهستريا مفاجئة:
- إيه ده؟ قول لي بسرعة وحياتك إيه ده! وحياتك بسرعة بسرعة بسرعة.
وقبل أن يفكر فيما يقول انخلعت عنه، ناظرة إليه بشك متوحش:
- أوع يكون هوه؟
وقبل أن يفتح فمه أردفت:
- أنا مش قلت، أنا مش قلت، اتفضل بقي، أتفضل بقي، أنا مش قلت.
وحقيقة لقد قالت وعارضت وكل ما حدث كان رغم قولها وإراداتها وبالتأكيد هي ألآن بسبيلها إلى إعادة ما قالته، وعليه أن يتذرع بالصبر ويقول لها كلاما مطمئنا كثيرا .. إنها مجرد آهة ... آهة ستمر، ويعود كل شيء إلى سابق عهده ...
أكان معقولا أن يعود أي شيء ليلتها إلى سابق عهده؟ الكلام نفسه وربما الألفاظ نفسها.
¥