ونتقل إلى وقفات ولمسات بيانية أخرى في سورة الواقعة؛ وهي سورة أحبها، وقد شرعت في تأليف كتاب قبل سنوات بعنوان "سورة الواقعة سورة أحبها" لكن تلف الهاردسك فأضاع علي ما كتب، ولم أكن قد حفظت له نسخة قبل التلف ...
في سورة الواقعة تحدث الله تعالى عن طائفتين من أهل الجنة؛ هما:
المقربون السابقون ومكانهم في أعلى الجنة.
وأصحاب اليمين ومكانهم في الجنة ابتداء من أسفلها باتجاه أعلاها.
وأسفل الجنة هو الأقرب إلى النار لموقعه بعد السور الذي يضرب بين الجنة والنار.
ولذلك كان من أهل هذه الجنة من يستطيع أن يكلم أهل النار، ويكلمه أهلها، كما بينت ذلك سورة الأعراف.
وفيها الذي ذكر الله تعالى قصته في سورة الصافات؛ (قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ (55) الصافات.
ومثل هذا الذي كان له قرين وصاحب في الدنيا كمثل هذا الهالك في النار؛ لا يتوقع له أن يكون له منزلة عالية في الجنة. لذلك كان في مكان استطاع رؤية قرينه؛ وحمد الله انه لم يكن معه؛ (قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) الصافات.
فناسب منزلة أصحاب اليمين من الجنة، وأنها الأدنى إلى النار أن يذكر نوعين من النبات الذي ينبت في المناطق الحارة، ولهما ثمر كثير يتناسب مع كثرة أهل اليمين، وأهل اليمين من اسم يفيد أنهم نالوا الجنة بجهد ومشقة حتى استطاعوا أن يكونوا من أهلها.
فقال تعالى: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (29) الواقعة.
ولما كان ذكر هذه الأشجار يستحضر ذكره سطوع الشمس، وشدة الحر، والحاجة إلى الظل؛ لأنهما من الأشجار الحارة؛ ذكر تعالى بعدها: (وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (30) الواقعة.
وتخفيف الحر يحتاج كذلك إلى ترطيب الجو برش الأرض بالماء؛ فقال بعدها: (وَمَاء مَّسْكُوبٍ (31) الواقعة.
ولو بقيت أنهار الجنة متفقة في أسفلها كتدفقها في أعلاها؛ لفاضت على أهل النار، فكان ذكر سكب الماء بدل ذكر الأنهار أنسب لمكانة هذا المكان من الجنة.
ولما كان توفر المياه السطحية في الجنة بكثرة، وهو الأنفع للنبات لتخلله بين جذورها، ومع وجود شدة الحرارة؛ فإن إنتاج النبات للفاكهة يكون أكثر؛ لحاجة النبات للماء والحرارة؛ فقال تعالى: (وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) الواقعة.
ولما كانت المناطق الباردة تنتج الفاكهة في فصول محددة وقصيرة، نجد أن المناطق الحارة إذا توفرت فيها المياه؛ تنتج أكثر من محصول في العام؛ وتصلح فيها الزراعة طوال العام، فذكر تعالى في صفة هذه الفاكهة أنها: (لَّا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) الواقعة. أي لا تنقطع؛ فهي متوفرة بصفة دائمة، ولا يمنع منها أحد لكثرتها، فهي تزيد عن كفاية أصحاب الجنة، وخاصة أصحاب هذه المنزلة من الجنة.
مع أن عموم الجنة لا حر فيها ولا برد؛ فقال تعالى: (وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) الإنسان. لباس من حرير خفيف، يناسب مكان ظليل، لا شمس فيه ولا زمهرير.
ولكن ما يأتي على ذكره في سورة الواقعة يناسب كل فئة ممن ذكر فيها.
ولما كانت المناطق الحارة من مسببات الهياج الجنسي؛ ويرضى الرجال فيها بنساء هن دون ما يتطلعون، ويقبلون بهن على دنو منزلتهن في الجمال؛ فإن الله تعالى ذكر صورة لأزواج أهل هذه الفئة من أصحاب الجنة، ومدحهن بما لم يذكر مثله في سورة أخرى، ولك أن تتخيل بعد ذلك كيف تكون أزواج المقربين؟!؛ فقال تعالى: (وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِّأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِّنَ الْآخِرِينَ (40) الواقعة.
¥