تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[وقفات بلاغية مع آيات الصيام (2)]

ـ[عبدالعزيز العمار]ــــــــ[08 Sep 2008, 05:57 م]ـ

السلام عليكم ورحمة الله فهذه الوقفة الثانية مع آيات الصيام للنظر في أسرارها البلاغية، ونكتها البيانية، والله أسال أن ينفع بها كل من قرأها، وأن يزيدنا تأملا وتدبرا لكتابه العزيز.

يقول الله تعالى:

? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذي يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ? وبعد أن ذكر – سبحانه – فرضية الصيام، شرع بعد ذلك في ذكر أحكامه وأيامه في قوله ? أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر وعلى الذي يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ? وقد تمَّ التعبير عن شهر الصيام بقوله ? أياما معدودات ? وفي ذلك كثير من الأسرار البلاغية، وبيان ذلك: أن المراد بالأيام المعدودة شهر رمضان كاملاً، كما بيّن ذلك ابن جرير الطبري (ت 310هـ) في تفسير هذه الآية، ورجحه على غيره من الأقوال (1)، ولذا فإن قوله ? معدودات ? كناية عن القلة، يدل على ذلك معناها، إذ المراد بالمعدودات: المُحصيات، فهي الأيام التي تُعد ساعاتها، وتُحصر أوقاتها؛ لكونها مؤقتات بعدد معلوم؛ إذ يحصرهن العدد. (2)

وقد ورد وصف "معدودات" في القرآن كثيراً، وكان المراد به الكناية عن القلة، ومن ذلك قوله ? وقالوا لن تمسنا النار إلا أياما معدودات ...... ? (3)،وقوله ? وشروه بثمن بخس دراهم معدودة ... ? (4)، وتتجلى بلاغة الكناية في آيات الصيام أن فيها تيسيراً وتخفيفاً على المكلفين؛ لكون هذا الشهر أياماً معدودات، وكأن المعنى أن الله – سبحانه وتعالى – يريد أن يقول لنا: ((إني رحمتُكم، وخففتُ عنكم؛ حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله، ولا صيام أكثره، ولو شئتُ لفعلت ذلك، ولكني رحمتُكم، وما أوجبتُ الصوم عليكم إلا في أيام قليلة)). (5)

تضمن نظم الآية كلها كثيراً من الأسرار البلاغية، وقد تمَّ توظيفها في بيان هذه الأحكام وإيضاحها، فقد تقدم متعلق خبر "كان" في قوله ? فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ?، وفي هذا التقديم عناية بحال المخاطبين بهذه الأحكام، واهتمام بشأنهم، فقد جاءت هذه الآيات مفصلة أحكام الصيام المتعلقة بهؤلاء المكلفين، بل إن الصيام ما شُرع إلا رحمة بهم، وعناية بشأنهم، ومن هنا جاء التقديم إشارة إلى هذا المعنى، ودلالة عليه، فقد فُرض الصيام عليكم، وشُرعت الأحكام لكم، فأنتم مدار الأمر، ومحل الحكم، فلا غرو بعد هذا أن يُقدم الضمير المتعلق بهم؛ اهتماماً بشأنهم، وحفاوة بأمرهم.

كما ورد في الآية – أيضاً – تقديم المرض على السفر، وكأن في هذا إشارة إلى أن المرض من أكثر الأسباب الداعية إلى الفطر في رمضان بخلاف السفر، فقلة من يُنشأ السفر في رمضان، بل إن كثيراً من المسلمين من يؤجل سفره خلال شهر رمضان؛ بغية الصيام مع المسلمين، بخلاف المرض، فالناس أكثر عرضة له، وإصابة به من السفر، كما أنه لا خيار لهم في وقته ولا مدته، ولذا فقُدم ذكره في آيات الصيام لهذا الغرض، والله أعلم بأسرار كتابه.

وفي قوله ? أو على سفر ? استعارة تبعية بالحروف، ففي حرف الجر "على" – بدلالته على الاستعلاء - استعارة تبعية، فقد استُعير الاستعلاء لمن تَلَبَّس بالسفر، وتمكن منه تمكن الراكب بمركوبه، يتصرف فيه كيف يشاء، ويوجهه أنى أراد، وقد دُلَّ على هذه الاستعارة بالحرف الدال على الاستعلاء، وتكمن بلاغة هذه الاستعارة أن فيها دلالة على أن المسافر قد تمكن من سفره، وقد عزم عليه، بل قطع فيه شوطاً، كما أن فيه إشارة إلى أنه عازم على إتمام سفره، والمضي فيه. (6)

وفي هذه الاستعارة إشارة إلى أنه لا يكفي إرادة السفر لكي يُباح له الفطر، بل لا بد من الشروع فيه، ولذا ذكر بعض الفقهاء أن المسافر لا يحل له الفطر في نهار رمضان إذا أراد السفر إلا إذا فارق بيوت قريته ونحوها (7)، وفي هذه الاستعارة إشارة إلى هذا المعنى، ومن هنا يتجلى بلاغة الاستعارة وأهميتها في هذا المقام، فقد وُظفت دلالتها في بيان أحكام السفر.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير