[الأساليب البلاغية في تيسير الصيام]
ـ[يوسف العليوي]ــــــــ[19 Sep 2008, 05:01 م]ـ
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد،
فقد كنت في عام 1426هـ أدرس طلابي مقرر البلاغة في الدورة التأهيلية للانتساب بالجامعة، ووافقت الدراسة ليالي رمضان، فكانت مناسبة أن نتناول فيها آيات الصيام بالتحليل البلاغي حسب ما ندرسه، وجمعت في ذلك وريقات مما وقفت عليه في كتب التفسير، وما فتح الله به، ثم أردت أن أنقحها لتكون مقالة في الملتقى المبارك لأهل التفسير وعلوم القرآن، ثم علمت من أخي الفاضل د. عبدالعزيز العمار أنه كتب في بلاغة آيات الصيام وعرضها في الملتقى في عام مضى، فبحثت عنها فرأيته قد أجاد وأفاد، فلم أرد أن أكرر كل ما قال، ورأيت أن أذكر ما لم يذكره، ثم رأيت أن أذكر في هذه المقالة بعض الأساليب البلاغية التي أسهمت في غرض ركزت عليه آيات الصيام، وهو غرض التيسير على العباد والتهوين من مشقة التكليف عليهم، والتلطف بهم للترقي بهم من الأخف إلى الأشد، ترغيبًا للقيام بهذه العبادة العظيمة، وذلك من رحمة الله بنا وهو اللطيف الخبير، نسأل الله أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته.
وأقول:
شرع الله عز وجل (الصيام) وفيه مشقة على العباد، حيث يجتنبون -عن تكليف لهم- ما تشتهيه نفوسهم من المآكل والمشارب والمناكح، مع ما يجدونه من مشقة الجوع والعطش، والتكليف بأي عبادة ومنها الصوم فيه مشقة على النفوس، لكن إذا كان التكليف بترك ما جبلت النفس على محبته والرغبة فيه، فإن المشقة عليها تكون أعظم، ولذا جاءت آيات الصيام بأساليب بلاغية تراعي تهوين الصيام على العباد وتيسير تلقيه، لعلهم يستجيبون ويرغبون في أدائه.
ومن هذه الأساليب ما يأتي:
1 - النداء في أول الآيات (ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءَامَنُواْ).
وقد جاء هذا المكتوب –الصيام- متصلاً بمكتوبين على المؤمنين: القصاص، فالوصية؛ أما القصاص فنودي المؤمنون عند إعلامهم به، وأما الوصية فلم يكرر النداء، ثم كرر النداء لكتب الصيام، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ?لَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)}.
ونداء المؤمنين بوصف (الإيمان) المحبب إليهم فيه مراعاة لطبيعة النفس البشرية التي يشق عليها التكليف، فتحتاج إلى ما يسهل عليها قبوله والاستجابة له، وإلى ما يستجيشها ويحثها ويدفعها للقيام به، فكان هذا النداء بهذا الوصف تسهيلاً وترغيبًا، وحثًا، وتذكيرًا بأن الإيمان بالله عز وجل يقتضي الاستجابة لأمره مهما كان شاقًا على النفس.
والنداء في مثل هذا المقام فيه تودد وتلطف، ولما كان الصيام مما يشق على النفوس كرر النداء، إظهارًا للتلطف بالعباد، وإظهارًا لمزيد الاعتناء بما سيلقى إليهم من تكليف، لعلهم يرغبون في القيام بما سيفرض عليهم مما قد يشق على نفوسهم.
وذكر بعض المفسرين أنه لم يحتج إلى نداء في المكتوب الثاني (الوصية) لانسلاكه مع الأول في نظام واحد، وهو: حضور الموت بقصاص أو غيره، وتباين هذا التكليف الثالث منها. وقد يكون لبعد العهد بالنداء الأول أثر فحسن التكرار، والله أعلم.
¥