تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما موقف الكتابين من المعرفة والعلم والحكمة فالكتاب المقدس يقول: "طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة وللرجل الذي ينال الفهم. لأن تجارتها خير من تجارة الفضة، وربحها خير من الذهب الخالص. هي أثمن من اللآليء وكل جواهرك لا تساويها". وفي سفر "الأمثال" نقرأ أن "كون النفس بلا معرفة ليس حسنا". وفي إشعياء: "سبي شعبي لعدم المعرفة". وفي هوشع: "قد هلك شعبي من عدم المعرفة".

وبالمثل يغبط القرآن الكريم من آتاه الله الحكمة، ويعدها خيرا كثيرا: "يؤتي الحكمة من يشاء. ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، ولا يسوي بين العلماء والذين لا يعلمون: "قل: هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون؟ ". والله سبحانه يرفع المؤمنين الذين أوتوا العلم درجات عالية لا يرقى إليها غيرهم: "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات".

لكن على حين نجد أن نظرة القرآن إلى العلم مطردة على هذا النحو فإن في الكتاب المقدس آيات أخرى تناقض الآيات السابقة التي استشهدنا بها منه آنفا، ففي سفر "الجامعة" أن معرفة الحكمة، مثلها مثل معرفة الحماقة والجهل، هي قبض الريح، وأن "في كثرة الحكمة كثرة الغم. والذي يزيد علما يزيد حزنا"، ومن هنا فإن "الدرس الكثير تعب للجسد"، بمعنى أنه تعب لا يجدي على صاحبه شيئا، كذلك يؤكد بولس أن الله "مرجع الحكماء إلى الوراء ومجهل معرفتهم"، وأنه قد جهل "حكمة هذا العالم"، وأنه قد "اختار ... جهال العالم ليخزي الحكماء"، وأن "حكمة هذا العالم هي جهالة عند الله"، "وأيضا الرب يعلم أفكار الحكماء باطلة". وعلى هذا فـ "إن كان أحد يظن أنه حكيم بينكم في هذا الدهر فليصر جاهلا لكي يصير حكيما".

إن كاتب مادة Science في Dictionary of the Bible يدافع عن موقف بولس تجاه العلم كما تعكسه الآيتان 1، 7 من الأصحاح الثامن من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (ونص كلامه هو: "وأما من جهة ما ذبح للأوثان فنعلم أن لجميعنا علما. العلم ينفخ، ولكن المحبة تبني. فإن كان أحد يظن أنه يعرف شيئا فإنه لم يعرف شيئا بعد كما يجي أن يعرف ... ولكن ليس العلم في الجميع، بل أناس بالضمير نحو الوثن إلى الآن يأكلون كأنه مما ذبح لوثن. فضميرهم إذ هو ضعيف يتنجس" فيزعم أنه لا يقصد به دراسة مخلوقات الله (أو كما سماها هو "أعمال الله: The work of God" ) بل كان هجومه منصبا على المعرفة التي تفتخر بها الفرق المتهودة والباطنية في عصره، على عكس المعرفة الحقيقية التي كان يشيد بها أيما إشادة. والحقيقة أن مثل هذا الدفاع لا يصمد للنظر، فإن هجوم بولس على الحكماء وعلمهم غير مقصور، كما رأينا، على الآيتين السابقتين. ثم إن جميع المعارف أيا كانت إنما هي، على نحو أو على آخر، دراسات لمخلوقات الله. وقد كان الأحرى ببولس، لو كان فعلا يقصد ما يقوله الكاتب المذكور، أن يهاجم غرور العلماء فقط لا العلم نفسه والحكمة، فإن العلم والحكمة لا يمكن أن يكونا إلا خيرا، وخيرا كثيرا.

وليس بولس هو وحده الذي ينظر إلى المعرفة والعلم هذه النظرة، فها هو يوحنا الرسول يقول في رسالته الأولى إن مسحة التعميد للذين لم يعاصروا المسيح كفيلة بعدم احتياج الممسوح إلى أن يعلمه أحد لأن هذه المسحة تعلمه كل شيء.

إن هذا الاضطراب في موقف الكتاب المقدس نحو العلم والمعرفة يعسر فهمه وتفسيره إلا على أساس واحد هو أنه، على وضعه الحالي، صناعة بشرية. ولست أوافق الدكتور موريس بوكاي على قوله إن "الأمر الذي لا جدال فيه هو أنه ليست هناك أية إدانة للعلم في أي كتاب مقدس من كتب أديان التوحيد"، فها هي نصوص من الكتاب المقدس لدى اليهود والنصارى تفند هذا الادعاء، ولعل تفسير ذلك هو أن هذا الكتاب قد خضع لكثير من الحذف والإضافة وإعادة الصياغة والنحل مما باعد بينه وبين أصله الإلهي، وجعل من الصعب في بعض الأحيان، ومن المستحيل في أحيان أخرى أن نقول إن الدينين اللذين يقدسه أتباعهما قد بقيا ديني توحيد.

ومع ذلك فقد بقيت في الكتاب المقدس قبسات من نور الوحي الإلهي. ولعل من هذه الأقباس الإلهية ما جاء في "الأمثال" من أن "مخافة الرب رأس الحكمة وهو ما يذكرنا بقول الله سبحانه في القرآن الكريم: "إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير