تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولنعد مرة ثانية إلى الدكتور بوكاي، الذي يقول: "ومن الثابت فعلا أنه في فترة تنزيل القرآن ... كانت المعارف العلمية في مرحلة ركود منذ قرون، كما أن عصر الحضارة الإسلامية النشط مع الازدهار العلمي الذي واكبها كان لاحقا لنهاية تنزيل القرآن. إن الجهل وحده بهذه المعطيات الدينية والدينوية هو الذي يسمح بتقديم الاقتراح الغريب الذي سمعت بعضهم يصوغونه أحيانا، والذي يقول إنه إذا كان القرآن فيه دعاوى ذات صفة علمية مثيرة للدهشة فسبب هو تقدم العلماء العرب على عصرهم، وإن محمدا صلى الله عليه وسلم بالتالي قد استلهم دراساتهم. إن من يعرف، ولو يسيرا، تاريخ الإسلام، ويعرف أيضا أن عصر الازدهار الثقافي والعلمي في العالم العربي في القرون الوسطى لاحق لمحمد صلى الله عليه وسلم، لن يسمح لنفسه بإقامة مثل هذه الدعاوى الوهمية. فلا محل لأفكار من هذا النوع، وخاصة أن معظم الأمور العلمية الموحى بها أو المصوغة بشكل بين تماما في القرآن لم تتلق التأييد إلا في العصر الحديث. من هنا ندرك كيف أم مفسري القرآن (بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الإسلامية العظيم)، قد أخطأوا حتما وطيلة قرون، في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق".

وهنا نصل إلى الآيات التي ذكرت آنفا أنني أحب أن أستأنى عندها قليلا، فقد وجدت في التفاسير القديمة ما يؤكد هذا الذي يقوله الدكتور بوكاي، ففي تفسير قوله تعالي: "وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون. ثم كلي من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك ذللا، يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه، فيه شفاء للناس ... "، إذ يقول الشريف الرضي: " والعسل عند المحققين من العلماء غير خارج من بطون النحل، وإنما تنقله بأفواهها من مساقطه ومواقعه من أوراق الأشجار وأضغاث النبات، لأنه يسقط كسقوط الندى في أماكن مخصوصة وعلى أوصاف معلومة. والنحل تتبع تلك المساقط، وتعهد تلك المواقع فتنقل العسل بأفواهها إلى كوراتها، والمواضع المعدة لها، فقال سبحانه: "يخرج من بطونها" والمراد "من جهة بطونها"، وجهة بطونها أفواهها. وهذا من غوامض هذا البيان وشرائف هذا الكلام". فانظر كيف أن العلماء المحققين حتى عصر الشريف الرضي (القرن الخامس الهجري) يقررون أن العسل لا يخرج من بطون النحل، ومن ثم عد هو قوله تعالى: "يخرج من بطونها شراب ... " مجازا من مجازات القرآن، التي أدار عليها كتابه الذي اقتبسنا منه النص السابق. والصواب هو ما قاله القرآن من أن العسل يخرج فعلا من بطون النحل، التي تجمع الرحيق، ويتحول في معدتها إلى عسل تقوم بإفرازه بعد ذلك.

وفي خطأ مشابه يقع الإمام الباقلاني، إذ يعد قوله تعالى: "والله خلق كل دابة من ماء ... " نوعا من التعميم في التعبير، فقد ظن أن القرآن، حينما قال إن كل الدواب مخلوقة من ماء، لم يقصد أن القرآن أنها كلها كذلك بل بعضها فقط، ولكنه عمم القول. فماذا يقول علماء العصر الحديث، الذين قتلوا هذا المسألة بحثا؟ " الثابت بالتحديد أن أصل الحياة مائي، وأن الماء هو العنصر الأول المكون لكل خلية حية، فلا حياة ممكنة بلا ماء. وإذا ما نوقشت إمكانية الحياة على كوكب ما فإن أول سؤال يطرح هو: أيحتوي هذا الكوكب على كمية من الماء للحياة عليه؟ " والطريف أن الباقلاني قال قوله ذاك دفاعا عما ظنه الملحدون في عصره مطعنا في القرآن الكريم. وهذا نص كلامه: " وأما قوله عز وجل: "والله خلق كل دابة من ماء ... " قال الملحدون: وفي هذه الآية إحالة من وجوه، أحدها أنه خلق كل دابة من ماء وليس الأمر كذلك، لأن منها ما يخلق من بيض وتراب ونطف ... والجواب أن قوله "كل" لا يقتضي استغراق الجنس، بل هو صالح للتعميم والتخصيص. ولو ثبت العموم لجاز تخصيصه إذا علمنا أن من الدواب ما لم يخلق من ماء. على أن من الناس من يقول: أصل الأشياء كلها أربع: الماء والهواء والنار والأرض، وكل دابة مركبة من بلة ورطوبة". والآياتان السابقتان وتعليق الشريف الرضي والباقلاني عليهما لا يحتاجان إلى تعقيب، اللهم إلا القول بأن هذين العالمين قد أتيا بعد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام بعدة قرون أحرز المسلمون أثناءها تقدما علميا كبيرا جدا بالقياس إلى معارف العرب

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير