تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الآيات السابقة تتحدث عن الظل (الظلام) والرياح والماء والأنعام والأناسي، وهي مفاهيم عامة لا تشير إلى ظلام بعينه ولا رياح بعينها ولا ماء معين ولا أنعام ولا أناسي مخصوصة، فلم يقال إذن إن "البحرين" هنا هما بحران معينان (دجلة والفرات)؟ إن السياق الذي وردت فيه هذه الكلمة هو سياق عام، ومن ثم فإن بلاغة الكلام تقتضي أن يكون "البحران" أيضا هما "النهر والبحر" بإطلاق، أي أن (ال) فيهما هي (ال) الجنس لا العهد. فهذا من ناحية اللغة والبلاغة، فضلا عن ذلك فإن ماء النهر، مهما توغل بقوة اندفاعه إلى مدى بعيد في داخل البحر أو المحيط، يختلط في النهاية بمائهما، ومن ثمة فإن ظاهر الأمر أن النهر يبغي في البداية على البحر (عندما شق ماءه الملح وأزاحه عن طريقه) ليعود البحر فيبغي في النهاية عليه (عندما اختلط ماؤه العذب بماء البحر الملح الذي أفقده خاصية العذوبة وأعطاه بدلا منها ملوحته)، فأين البرزخ إذن والحجر المحجور؟ أما "المنتخب في تفسير القرآن" فإنه يقول في هامش خصصه للتعليق على هذه الآية إنها ربما " تشير إلى نعمة الله على عباده بعدم اختلاط الماء الملح المتسرب من البحار في الصخور القريبة من الشاطئ بالماء العذب المتسرب إليها من البر اختلاطا تاما، بل إنهما يلتقيان مجرد تلاق: يطفو العذب منهما فوق الملح كأن بينهما برزخا يمنع بغي أحدهما على الآخر وحجرا محجورا، أي حاجزا خفيا مستورا لا نراه ". لكن ثمة نقطة هامة يبدو لي أن كاتبي هذا التعليق، على رغم جدته وطرافته (بالنسبة لي على الأقل) قد أغفلوها، إذ إن الماء العذب والماء الملح اللذين يلتقيان في الشقوق على هذا النحو لا يمكن تسميتهما بحرين. ثم إذا كان الماءان في هذه الظروف لا يلتقيان، فإنهما في عرض البحر والمحيط يلتقيان ويتمازجان ويصبحان في النهاية ماء واحدا، كما قلنا من قبل. يبدو لي، والله أعلم، أن البرزخ المذكور في هذه الآية هو القوانين التي بمقتضاها بقى كل من الماء العذب والملح كل هذه الدهور المتطاولة التي لا يعلم مداها إلا الله، وسيبقيان إلى أن يرث الله الأرض والسماوات موجودين، فالأنهار تصب في البحار والمحيطات، وكان المفروض، لو أن الأمر انتهى عند هذا الحد، أن يختلط الماءان اختلاطا دائما، فلا ينفصلان بعد ذلك أبدا، ويصبح كل الماء الموجود على سطح الأرض ماء ملحا. بيد أن التقدير الإلهي قد شاء أن يقوم البحر بحمل الماء من البحار والمحيطات، فتسوقه الرياح ليسقط على الجبال وينحدر إلى الأنهار ماء عذبا كما كان، وهكذا دواليك. وهكذا أيضا يبقى الماء العذب والماء الملح، ويتعايش البحران دون أن يبغي أحدهما على الآخر ويقضي عليه. فهذا هو البرزخ وهذا هو الحجر المحجور، فيما أفهم، والله أعلم. كما يبدو لي أن هذه الآية، إلى جانب امتنانها على العباد بهذه النعمة الإلهية، تتضمن معنى مجازيا، فإني أظن أن المقصود بالماء العذب هنا المؤمنون وبالماء الملح الكافرون، والمعنى هو أن الإيمان والكفر سيبقيان إلى آخر الدهر لا يستطيع أحدهما أن يقضي على الآخر تماما. والذي دعاني إلى هذا التفسير هو ما فهمته من أولى الآيات التي تتحدث عن ظواهر الطبيعة في السياق الذي وردت فيه آيتنا هذه، والآية التي إليها هي: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل، ولو شاء لجعله ساكنا، ثم جعلنا الشمس عليه دليلا. ثم قبضناه إلينا قبضا يسيرا". أما المعنى المجازي الذي لمحته فيها، بجانب معناها الظاهري، فهو أن الله يطمئن الرسول أن كفر قومه، المرموز إليه هنا بالظل (أي الظلام)، إن كان الآن ممدودا فإن الله قابضه رويدا رويدا، ومبزع شمس الإيمان عما قليل. والذي أوحى إلي بهذا المعنى هو السياق الذي وردت فيه هذه الآية هي وآية "وهو الذي مرج البحرين ... "، فقد كان المولى سبحانه يتكلم عن الأمم السابقة التي كذبت برسلها عنادا وطغيانا، فأهلكها الله بعد أن كانت مستعزة بقوتها وانتشار سلطانها، فبدت لي النقلة إلى الحديث عن بعض الظواهر الطبيعية غير مفهومة إلا في ضوء هذا المعنى المجازي.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير