تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الخطأ الثاني: لم يقل أحد من الأشاعرة بأن الجزء القرآني المدون في اللوح المحفوظ أزلي قديم، لأنه لا أحد من المسلمين يمكن أن يعتقد أن اللوح المحفوظ قديم فضلاً عما يحتويه، فاللوح المحفوظ مثله مثل دفتي المصحف يحفظ في داخله المعلومات التي كشَفها أو يريد أن يكشفها الله عز وجل للبشر أو لنقل المعلومات الخاصة بالكون ? مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ? (). والألفاظ الموجودة في اللوح المحفوظ أو في المصحف مخلوقة، لأن الألفاظ خطاب متعلق بالمخلوقات فهي لذلك حادثة، وهو ما يوضحه الإمام الغزالي بعبارة مختصرة حين يناقش منكري النسخ فيقول: "" وإن قالوا: كلام الله تعالى قديم، والقديم كيف يُنسخ قلنا: تعلق الخطاب بنا ليس قديماً، فلا بُعد في انقطاعه كما ينقطع بالجنون وغيره "" ().

كلام الغزالي هذا يبين أن العلماء ناقشوا علاقة النسخ بالأزلية بعكس ما يقرر الخطاب العلماني، ويبين أن القديم هو الصفة الذاتية " الكلام " أو ما يسميه الأشاعرة " الكلام النفسي " وهو المعنى القائم بالنفس الذي يشير إليه الأخطل:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جُعل اللسان على الفؤاد دليلاً

ومثله قول عمر رضي الله عنه: "" إني زوَّرت في نفسي مقالة، أي هيأت كلاماً "" ()، ومثله قولك لصاحبك: إن في نفسي كلاماً أحب أن أُطلعك عليه.

وعلى ذلك فليس هناك مشكلة في النسخ لأن النسخ لا يتناول الكلام القديم، إذ الباري عز وجل متكلم أبداً وأزلاً كما أنه عالم كذلك، إن النسخ يتناول الخطاب الإلهي من جهة تَعلقِه بنا، وتعلُّقه بنا حادث وليس قديماً، فلو افترضنا أن الناس كلهم مجانين ولم يخاطبهم الباري عز وجل ولم يكلمهم أفيعني ذلك أن الباري عز وجل ليس متكلماً؟!

إن التعلق الحادث مثله مثل الأفعال الإلهية التي ينسخ بعضها بعضاً، فهو سبحانه وتعالى يُمرِض ويشفي ويُسعد ويُشقي ويُميت ويُحيي ويُفقر ويُغني، ولم يقل أحد إن العلم الإلهي بناء على ذلك إذن حادث، فالعلم صفة إلهية ذاتية قديمة ومتعلَّقُها أي المعلومات حادثة ().

إن النسخ من الباري عز وجل بيان، أما بالنسبة لنا فهو رفع أو إزالة، والباري عز وجل عندما ينسخ حكماً فقد سبق في علمه أن هذا الحكم المنسوخ مؤقت لا مؤبد، وسبق في علمه أيضاً في تأقيته إنما هو بورود الناسخ لا بشيء آخر، وقد تعلق علمه عز وجل بهما جميعاً، وهذا ينفي عن الباري عز وجل شبهة الجهل، أو تحصيل الحاصل اللتين يتعلق بهما نفاة النسخ من اليهود، ومعنى هذا أن الله عز وجل حين ينسخ شريعة أو حكماً في شريعة فهو إنما يكشف لنا بهذا النسخ عن شيء من علمه السابق ().

إن معنى النسخ هو قطْع تعلُّق الخطاب بالمكلف، وكلام الله تعالى قديم لا يُرفع، وإنما الذي يرفع هو الحكم لا الخطاب نفسه، ثم إن الكلام القديم يتعلق بالقادر والعاقل، فإذا طرأ العجز والجنون زال التعلُّق، وإذا عادت القدرة وعاد العقل عاد التعلق بالمكلف، وكلام الله عز وجل قديم لا يتغير و لا يتبدل ().

والله ولي التوفيق.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير