حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ، إِذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ.
فَقَالَ: مَا رَابَكُمْ إِلَيْهِ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا يَسْتَقْبِلُكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ!.
فَقَالُوا: سَلُوهُ!.
فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ فَقُمْتُ مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ: " وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ".
والحديث أخرجه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي كما في الدر المنثور.
فما العمل للجمع بين هاتين الروايتين؟.
قال الإمام السيوطي رحمه الله في الإتقان ص217 [طبعة المجمع]: " وقد رُجِّح بأن ما رواه البخاري أصح من غيره وبأن ابن مسعود كان حاضر القصة ".
ورجح الدكتور فضل عباس في إتقان البرهان (1/ 311 - 312) رواية الترمذي بدعوى أن رواية البخاري منافرة للسياق!، ثم طرح إشكالاً وأجاب عنه بجواب ضعيف، وهو كيف تركت الرواية الصحيحة وترجيح السيوطي؟.
على أن الجمع بين الروايتين أولى من الترجيح بينهما، ووجه الجمع بناء على ما قرره شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: أن الآية نزلت في مكة كما دل على ذلك حديث ابن عباس، ثم لما سأله اليهود عنها في المدينة " نَزَلَ جِبْرِيلُ فَقَرَأَهَا عَلَيْهِ لِيُعَلِّمَهُ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ جَوَابَ ذَلِكَ السؤال وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ يَحْفَظُهَا قَبْلَ ذَلِكَ ".
وهذا ما أشار إليه الإمام برهان الدين البقاعي في نظم الدرر (11/ 505) فقال بعد أن هذا طرح الإشكال: " وليس ذلك وأمثاله بحمد الله بمشكل، فإنه محمول على أنه نزل للسبب الأول، فلما سئل عنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثانياً لم يجب فيه بالجواب الأول، إما لرجاء أن يؤتى بأوضح منه، أو خشية أن يكون نسخ - أو نحو ذلك لأمر رآه صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فيعيد الله سبحانه إنزاله عليه (1) تثبيتاً له وإعلاماً بأنه هو الجواب، وفيه مقنع " اهـ كلامه بلفظه.
وقال الحافظ ابن كثير بعد ان ذكر الرواية الثانية: "وهذا السياق يقتضي فيما يظهر بادي الرأي: أن هذه الآية مدنية، وأنها إنما نزلت حين سأله اليهود، عن ذلك بالمدينة، مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا: بأنه قد يكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} " اهـ كلامه بلفظه.
وقال ابن عاشور بعد ذكر حديث ابن مسعود: " فالجمع بينه وبين حديث ابن عباس المتقدم: أن اليهود لما سألوا النبي صلى الله عليه وسلم قد ظن النبي أنهم أقرب من قريش إلى فهم معنى الروح فانتظر أن ينزل عليه الوحي بما يجيبهم به أبين مما أجاب به قريشاً، فكرر الله تعالى إنزال الآية التي نزلت بمكة أو أمره أن يتلوها عليهم ليعلم أنهم وقريشاً سواء في العجز عن إدراك هذه الحقيقة أو أن الجواب لا يتغير "اهـ كلامه بلفظه.
وأنت ترى أن هذه الطريقة أفضل من وجهين:
الأول: أن الجمع مقدم على الترجيح عند التعارض، وفي هذه الطريقة جمع بين الروايتين.
الثاني: يزول الإشكال بأن في القول بالرواية الثانية منافرة للسياق، والله تعالى أعلم.
على أن فهم الآية ليس متوقفاً على معرفة السائل عن الروح.
(1) جعل الدكتور فضل حفظه الله مذهب البقاعي موافقاً لما ذهب إليه هو من ترجيح رواية الترمذي، وأنت ترى أن كلام البقاعي صريح في أن الآية نزلت مرتين.