ـ[عمرو الشاعر]ــــــــ[08 Sep 2008, 11:00 ص]ـ
ثم يوضح الله عزوجل مقدار الضيق والعذاب الذي يكون فيه هؤلاء فيقول: "إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة" أي أن هذه النار مؤصدة عليهم فليس هناك مخرج لهم منها, وإنما يعانون ويقاسون حرها, ثم تختم السورة بآية سببت للمفسرين كثيرا من الحيرة وهي قوله تعالى: " في عمد ممددة", والعمد معروفة وهي جمع عمود وهو كما جاء في المقاييس:
"العين والميم والدال أصلٌ كبير، فروعه كثيرة ترجع إلى معنىً، وهو الاستقامة في الشيء، منتصباً أو ممتدّاً، وكذلك في الرّأي وإرادةِ الشيء. من ذلك عَمَدْتُ فلاناً وأنا أعْمِدُه عَمْداً، إذا قَصدتَ إليه.
والعَمْد نقيض الخطأ في القتل وغيره، وإنّما سمي ذلك عمداً لاستواءِ إرادتك إيَّاه. قال الخليل: والعَمْد: أنْ تعمِد الشّيءَ بِعمادٍ يُمسكه ويَعتمِد عليه. قال ابن دُريد: عَمَدْت الشّيء: أسندتُه.
والشَّيء الذي يسند إليه عِماد، وجمع العِماد عُمُد. ...... فأمّا قوله تعالى: في عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [الهمزة 9]، أي في شِبْه أخبيةٍ من نار ممدودة." اهـ
ولقد احتار المفسرون في كيفية كون الأعمدة ممددة؟
فقال الإمام الفخر الرازي عند تناوله لهذه الآية:
"المسألة الثانية: العمود كل مستطيل من خشب أو حديد، وهو أصل للبناء، يقال: عمود البيت للذي يقوم به البيت.
المسألة الثالثة: في تفسير الآية وجهان الأول: أنها عمد أغلقت بها تلك الأبواب كنحو ما تغلق به الدروب، وفي بمعنى الباء أي أنها عليهم مؤصدة بعمد مدت عليها، ولم يقل: بعمد لأنها لكثرتها صارت كأن الباب فيها والقول الثاني: أن يكون المعنى: إنها عليهم مؤصدة حال كونهم موثقين: فى عمد ممدة مثل المقاطر التي تقطر فيها اللصوص" اهـ
والذي نراه أن المراد من كون الأعمدة ممددة مدلولان: أولهما هو أن هذه الأعمدة ممدودة أي أنها غير منصوبة, فمن الشائع أن يكون العمود منصوبا وعليه يستند شيء, أما هذه الأعمدة فممدودة.
وأما المدلول الثاني والمأخوذ من التضعيف في الكلمة فهو أن هذه الأعمدة تتمدد, فهذه الأعمدة لتعرضها للنار الشديدة تتمدد بفعل الحرارة. وبهذا يظهر أمامنا شكل آخر لتأثير النار فيما هو فيها, فهذه الأعمدة تتمدد ومن فيها ييبسون حتى يتفتتون! وبهذه الآية يمكننا أن نفهم شكل العذاب الرهيب الذي سيكون فيه هؤلاء الهمزة اللممزة, فهم محبوسون أو محاطون بالنار داخل عمد ممددة, تتمدد بفعل النار, والنار المؤصدة مؤصدة بالعمد فلا مخرج لها فتنصب عليهم وتتركز فلا تنفيس وإنما إيقاد حتى التفتت, وإذا كانت الأعمدة تتمدد بفعل النار فما بالنا بمن داخلها!
وقانا الله وإياكم شر هذه النار وعصمنا من أن نكون من أهلها!
وقبل أن نختم هذه السورة لا بد أن نذكر العلاقة بينها وبين السورة التالية لها وهي سورة الفيل: سورة الفيل هي تأكيد واقعي من القرآن على الغيبيات التي ذكرها في سورة الهمزة, فمن عادة القرآن أنه إذا ذكر غيبا أن يذكر نموذجا مبسطا مصغرا له في الدنيا, يُعرف القارئ أنه قد رأى وعرف عينة منه في الدنيا فما باله بما في الآخرة!
والحق يقال أني كنت أقرأ سورة الفيل فأجدها تبدأ بقوله تعالى "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل" فأسأل نفسي: هذا السؤال مرتبط بأمر ما؟ السورة كلها مرتبطة بأمر يريد الله عزوجل أن يقدمه للإنسان, فما هو هذا الأمر؟
فلما نظرت في سورة الهمزة ظهر لنا العلاقة بين السورتين, فالله تعالى ذكر الحطم الذي سيتعرض له الهمزة اللمزة ولما كان حطم النار غريبا على الأذن, قال الله تعالى للرسول ولكل إنسان: ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل .... فجعلهم كعصف مأكول! فقدم بذلك المثال من الدنيا على الحطم, فهؤلاء أرسل الله عليهم طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من سجيل, فجعلتهم هذه الحجارة الملتهبة المنصبة المتتابعة كعصف مأكول, والعصف معروف وهو ما تعصفه الريح سواء كان تبنا أو بواقي أوراق الشجر, المهم أنه فتات صغير تذروه الرياح, وهنا خص الله تعالى من العصف المأكول, أي أنه صيرهم إلى فتات صغير وهذا التصيير هو بداهة نوع من الحطم! فإذا كانت حجارة السجيل قد فعلت هذا في أصحاب الفيل, ألا تفعل النار الكبرى أشد من هذا في من فيها؟
وقانا الله وإياكم حرها وشرها والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته!