تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[بين الجهل وحول البصيرة]

ـ[علي جاسم]ــــــــ[07 Mar 2005, 03:11 م]ـ

يقول الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة " إن العمى أقرب للخلاص من بصيرة حولاء " ويقول ابن سينا في رسائله " إن البلاهة أدنى للنجاة من فطنة بتراء " ويقول الأديب الانكليزي فرنسس باكون " لأن يجهل الإنسان كل شيء عن الله خير من أن يعرف شيئا خاطئا عن الله " .. ولا غرو إن اتفقت أفكار صدرت عن قرائح متغايرة من حيث الفكر والتركيبة الشخصية .. فالغزالي صوفي الفكر وابن سينا فلسفي الفكر والأخير أديب غزير العلم واسع الخيال .. وهذا الأمر إن كان يعني شيئا فلا يعني إلا أن النضرة الصحيحة للحياة تفضي لاعتدال الفكر وهذا بدوره يفضي لاتفاق الأفكار – إن لم نقل وحدة الأفكار -بغض النضر عن القائل .. وهذه الأقوال تختلف من حيث التركيبة اللفظية على أنها تتفق من حيث الفكرة العامة والمضمون .. وهو أن اللاعلم بالشيء أقرب للوصول إليه من علم خاطئ فيه .. و هذه الأقوال- وعلى هذا المفهوم- تجعل من مستويات المعرفة تتدرج لثلاث مراتب أدنى ووسط وأعلى ..

والأدنى هنا هو اعوجاج الفكرة أو (حول البصيرة) كما سماها الغزالي ثم بعد ذلك الجهل بالشيء ثم بعد ذلك المعرفة الصحيحة .. أي أن الجهل هو الوسط بين العلم الصحيح والعلم الخاطئ بالشيء ..

ولنا مع هذه الأقوال شيء من المراجعة و- نستميح الغزالي وابن سيناء والسيد باكون عذرا – فهذا التقسيم إن صح فإنما يصح إن اعتبرنا أن الجهل يعني الخواء والفراغ، وإلا فما فرق الجهل عن حول البصيرة إن كان الجهل يعني عدم التميز بين ما هو صحيح وما هو خاطئ لأن حول البصيرة يعني نفس الشيء , ولا أحسب الغزالي وصاحبيه أرادا غير هذا ,وهب أن رجلا يسقي بذور القطن باللبن ضنا منه أن اللبن يزيد القطن بياضا، أو أن آخر ينام وتحت فراشه خنجر على خلفية أن ثعبانا يطارده في منامه وقد عزم على قتله بهذا الخنجر .. فهل نقول في صاحب الخنجر وصاحب السقاية أنهما جهلاء أم أن فيهما حول فكر .. في الحقيقة كلا القولين صحيح، أو بمعنى آخر لا فرق بين اعوجاج الفكر والجهل فهما وجهين لعملة واحدة ذلك لأنا لا يمكن أن نصف الجهل بأنه فراغ لنجعل من الفراغ خير من امتلاء بسوء إذ لا وجود لما يسمى بالفراغ .. بل لا يمكن أن يتصور الفراغ في فكر الإنسان وخياله، خصوصا إن كانت المسألة تتعلق بالعقيدة، وقد يقال فالدهرية لا عقيدة لهم فهم يقولون {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} فهل هذا حول في العقيدة أم جهالة .. وكما أسلفنا كلا الأمرين صحيح، فجهلهم أن ليس لهم عقيدة، واعوجاج عقيدتهم أنهم يعتقدون أن الدهر هو الذي يهلكهم فصاروا جهلاء مع حول في عقيدتهم، أو أن جهلهم هو عين اعوجاج عقيدتهم والعكس صحيح، وقبل أن يعرف الإنسان شيئا عن الله على لسان الرسل كان يؤمن أن هنالك آلهة مدبرة لهذا الكون فمنها آلهة الرعود وآلهة البحار وآلهة الريح ومنهم من كانوا يضنون أن الكواكب آلهة فعبدوها وشاهدنا قصة إبراهيم مع ملكوت السماوات والأرض – كوكب ثم القمر ثم الشمس, ومنهم عبدة الأصنام ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا .. فهل هئولاء ذوي جهل أم بهم حول عقيدة وكما قلنا أن كلا الأمرين صحيح .. إذن فما الذي يجعل الجهل أقرب للنجاة من بصيرة حولاء .. ؟؟ بماذا امتاز الجهل عن اعوجاج العقيدة ليكون أعلى منها مرتبة باعتباره أدنى للنجاة منها .. ؟؟؟

إنه الإيمان .. نعم .. الفرق بين الجهل واعوجاج العقيدة هو الإيمان إذ الجاهل ذو عقيدة وإن كانت ساذجة بسيطة لكنه ليس بمؤمن بها بقدر صاحب العقيدة العوجاء وهذا ما جعله أقرب للنجاة من صاحبه أي أنه أقرب للنجاة لنقص في إيمانه بما يعتقد لا لنقص في عقله أصلا .. وهذا ما جعل من آمن من مكة بالنبي صلى الله عليه وسلم يسلم لله تعالى إذ منهم من كان يعبد الأصنام عن غير إيمان كامل بها فكان أقرب للهداية , ومنهم من كان يؤمن بها إيمانا كبيرا فكانت هدايته أصعب من غيره وهي بعد عقيدة لا يقبلها عقل سليم ولا تستسيغها فطر سوية معتدلة .. لكن الأمر كما قلنا متعلق بمساحة الإيمان بعقيدة ما, وعلى هذا الأساس ولو أردنا أن نخرج بصيغة منتقاة من هذه الصيغ الثلاث المذكورة سلفا فنقول " إن اللاإيمان في شيء أدنى للنجاة من الإيمان بشيء خاطئ " .. والحمد لله رب العالمين ..

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير