[اللذة مع الحكمة .. للعلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور]
ـ[محمد بن إبراهيم الحمد]ــــــــ[23 Oct 2005, 06:24 ص]ـ
اللذة مع الحكمة (1) العلامة الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
سبرنا أغراض الإنسان، فوجدناه ظمئاً إلى ملائمات نفسه كيفما اتفق، ومتى اتفق، وأين اتفق، غير باحث عن ما يتبع ذلك من المضار، فأردنا أن نبين هنا حقيقة اللذة، ثم نبحث عن مواقعها، وننظر فيما إذا كانت لذة دائمة في هذا الكون الجثماني.
اضطربت آراء الناس -حتى الفلاسفة- في تشخيص معنى اللذة، وكلَّت أقلام الكتاب والشعراء دون ذلك، والذي نختار من بين كثرتها رأيان:
أولهما: يرى أن اللذة هي إدراك النفس ما يلائمها وتراه حسناً.
وثانيهما: أنها التخلص من آلام طبيعية أو عارضة.
ونحن إن نقدنا الأقوال، ولم نذهب مع تَشَبُّعها، لا يعترضنا شك في الحق أن اللذة إدراك النفس ما يلائمها على ما رأى أهل الرأي الأول، وأن من حصر اللذة في التخلص من الألم لم يستقرئ في حدها استقراء تاماً، كما يجب أن يكون التحديد للموجودات، إنما نظر إلى نحو النوم والأكل والشراب من كل لذة دعى إليها احتياج فطري، وضيق في دائرتها حتى كاد أن يخرج المعارف كلها عن اللذة.
نحن لا ننكر أن أكثر اللذات لا يفارقه الشعور بمبدأ ألم، ولو بالأقل ألم الشوق إلى نيل ما يلائم النفس، حتى ننكر على هذا القائل قوله كله، ولكنَّا نعلم أن من اللذات ما ينساق إلى المرء بدون فكر سابق، وربما وقع منه موقعاً لا يقعه لو كان مترقباً من قبل؛ فماذا ترون في هذا الإحساس؟!
انقسمت اللذات بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية وعقلية ومركبة منهما.
والنظر في التقسيم إلى الداعي والحاصل جميعاً، فإن كان الداعي الحس - وهو الذي تحصل به فهي الحسية، وإن كان العقل فهي العقلية، وإن كان الداعي العقل - وتحصل بالحس - فهي المركبة.
أما الحسية فأمرها خطير ومطالبها محدودة يسهل استيفاء ما تقتضيه في الإمكان، ومتى قضى الحس منها شيئاً كان الزائد عليه عنده ألماً.
وأما العقلية فهي حركة الفكر في المعقولات التي تطمح إليها النفس، وشعوره بالحقائق التي يجد عند الشعور بها مسرة لا يعدلها عنده شيء، وهذه يجدها العقل طوع (2) متى بالغ في البحث وجدها منطاعة لا تقف به عند حد.
أما إن أردتم التعب الشديد، والمشقة في السرور فاطلبوا قسمنا الثالث من أقسام اللذة، أعني ما تطلبه النفس، ويقتضيه البدن، تجدون خرط القتاد دونه سهلاً، وتفرضه في المحبة الحب العشقي؛ فإن الروح إن تعلقت به لقيت في سيرها من المكدرات ما يمرر حلاوة منالها منه، إذا كانت مطالب الروح غير واقفة عند مدى، فإن سلطان وهم المحبة يتسلط عليها فيناجيها أن تطمع باتحاد الروحين، وأن تروم المقارنة الدائمة، والرِّضا الأبدي، وهكذا يغادرها تستهتر بأماني لا يتناهى غرامها، ولا يبرد أوامها، ولكنها تجد طريق الاقتضاء هذا البدن القادر في مبدئه، العاجز في غايته، الذي تسمه المداومة، وتعوقه الموانع، فماذا عساه حقق من مطالب هاته الروح، وكم ذا يمكنها أن تقضي من استخدامه، لا شك أنها سيكون لهما مثلاً في هذه الحال قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً * تعبت في مرادها الأجسامفإذا نظرنا يعد هذا إلى المقدار الذي يمكن الإنسان تناوله من غير القسم الثاني، نجد أن لا شيء من الملاذ الحسية بلذَّة حقيقية، وإن تموه على عقول جمهور الناس؛ فإن هاته الملاذَّ - على ما فيها من توقف على تسويغات الدين والصحة والعادة والاحتياج إلى مكنة الفرض - هي واقفة عند غاية.
ثم ماذا ترى عند البلوغ إلى غايتها؟ ترى الهيضة إن أَكَلتْ، والامتلاء إن شَرِبتْ، والندامة إن داعبتْ، والعجز إن استزادتْ، غير أن الذي يريد أن يغض عن هذا كله، ولا يعتبر من حال اللذات إلا أوقات اقتضائها، ويقول ما الإنسان إلاَّ ابن ساعته، وما هو بمفكر في التي تليها - نقول له انظر إليك وأنت تزعم أنك في لذاتك الحالية، وجرد عقلك مما تسلط عليه من الوهم - تجد نفسك في لذاتك كلها محتاجاً إلى معونة غيرك، وإن كنت عاجزاً عن تحضير أسباب لذاتك؛ فليتك تشعر أنك تفقد واحداً أو ينقبض لك آخراً، وفي الأقل تفكر في انتهاء اللذَّة ومفارقتها، وكيف تجدك في حالك هاته ألا تجدك كما قال الشاعر:
¥