تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

هل يخالف جمهورُ العلماء جمهورَ السلف (2)

ـ[أبو عمار المليباري]ــــــــ[03 Sep 2005, 06:46 م]ـ

هذا إكمالٌ للمقال السابق بعنوان "هل يخالف جمهورُ العلماء جمهورَ الصحابة"، فوعدت القراءَ هناك بتوضيح ما يتعلق بتلك المقولة وكيف تأثر العلماء بها.

إن كثيراً من العلماء المتأخرين الذين درسوا المذهب الأشعري ونشؤوا عليه قد تأثروا بهذه المقولة المتداولة في عصرهم "مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم". ونتيجة هذا التأثر أصبحوا يردُّون كثيراً من أقوال السلف إذا وجدوها متعارضةً مع أقوالهم. ويتضح هذا الأمر بضرب بعض الأمثلة على ذلك، وفيما يلي مثالان لعالِمين من مشاهير العلماء المتأخرين:

1 - الإمام النووي: تعرَّض الإمام النووي لمسألة شدِّ الرحال لزيارة قبور الصالحين في (شرح صحيح مسلم 9/ 468) فقال: (واختلفَ العلماءُ في شدِّ الرحال وإعمالِ المطىِّ إلى غير المساجد الثلاثة كالذهاب إلى قبورِ الصالحينَ وإلى المواضع الفاضلةِ ونحوِ ذلك فقال الشيخ أبو محمد الجُويني من أصحابنا: هو حرامٌ وهو الذي أشار القاضي عِياض إلى اختياره، والصحيحُ عندَ أصحابنا؛ وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحققون أنه لا يحرم ولا يكره، قالوا: والمراد أن الفضلية التامةَ إنما هي في شدِّ الرحال إلى هذه الثلاثة خاصةً والله أعلم). فانظر كيف رُدَّ قول أبي محمد الجويني مع أن قوله موافق لظاهر النص ولِما عليه السلف. والمراد بالمحققين في كلام النووي: متأخروا الشافعية ممن تأثروا بالأشعرية والصوفية. أما المتقدمون من أصحاب الشافعي وغيرهم لا تكاد تجدُ لهم أقوالاً مخالفة لفهم السلف مثل هذا. وقد يقع بعض من يقرأ هذا الكلام في شرح صحيح مسلم في حيرةٍ: كيف يخالف شيخ الإسلام ابن تيمية أقوال الجماهير (1) والمحققين من أهل العلم، ثمَّ هل جمهور العلماء على جواز شدِّ الرحال إلى قبور الأنبياء والصالحين. نقول له: على رِسلك يا أخي فابن تيمية (2) أخذ بقول السلف والمذكور في شرح مسلمٍ رأيُ المتأخرين من الخلف.

2 - العلامة تقيُّ الدين السبكي: للسبكيِّ رسالة لطيفة في شرح حديث الفطرة (3): "ما من مولودٍ إلا ويولد على الفطرة ... " فنقل السبكي في الرسالة أقوال العلماء في معنى الفطرة فذكر منها في صفحة 18: أن المراد بالفطرة الطبع السليم المتهيِّء لقبول الدين، قال: وهو الذي نختاره وعليه أكثر العلماء. ثم ذكر القول الثاني والثالث (4) حتى أتى إلى الرابع فقال: أن الفطرة: الإسلامُ، ونُسب هذا القول إلى أبي هريرة والزهريِّ وكافة السلف.

فيُصدم القارئ بهذا التصرف من السبكي! كيف يجرؤ على مخالفة قول كافة السلف، وكيف يخالف جمهورُ العلماء أي المتأخرون جمهورَ السلف؟! ومن هنا يتبين للقارئ مدى تأثر هؤلاء المتأخرين بهذه المقولة ولماذا أكثر علماء السنة كابن تيمية في الرد على مقالاتهم وآرائهم الفاسدة وأثْبتوا أن قول السلف أسلم وأحكم وأعلم. وأختِمُ هذا المقال بقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في (فضل علم السلف على الخلف 40): (ولقد ابتلينا بجهلةٍ من الناس يعتقدون في بعض من توسَّع في القولِ من المتأخرين أنه أعلمُ ممن تقدَّم، فمنهم من يظنُّ في شخصٍ أنه أعلم من كل من تقدَّم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله، ومنهم من يقول هو أعلم من الفقهاء والمشهورين المتبوعين ... فإن هؤلاء كلهم أقلُّ كلاماً ممن جاء بعدهم، وهذا انتقاصٌ عظيمٌ بالسلف الصالح وإساءة ظنٍّ بهم ونسبةٌ لهم إلى الجهل وقصور العلم ولا حول ولا قوةَ إلا بالله) ونقل عن عمرَ بن عبدالعزيز في موضعٍ آخر (5): (خذوا من الرَّأيِ ما يوافقُ من كان قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم).


1 - ذكر النووي في موضع آخر أن هذا هو قول الجمهور (شرح صحيح مسلم 9/ 517).
2 - ولا أعلم أحداً في عصره أعلم منه بأقوال السلف من الصحابة والتابعين وأصحاب القرون المفضلة يقول الحافظ في (الدرر الكامنة 1/ 145): (وصارَ عجباً في سرعة الاستحضار وقوة الجنان والتوسع في المنقول والمعقول والاطلاع على مذاهب السلف والخلف).
3 - طبعة دار الصحابة للتراث بطنطا بتحقيق محمد السيِّد أبو عمه.
4 - والقول الثاني هو: الفطرة هي معرفة الله والثالث: الفطرة هي ما قضى الله عليهم من السعادة والشقاوة.
5 - في صفحة 32.

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير