هو قائم، أو أنت قائم إن كان مخاطباً لأن الابتداء ليس له لفظ يتصل به الضمير، لذلك وجب أن يكون ضميره منفصلاً .. " (20) ويعلل حركة تاء الرفع بأن "التاء هنا (أي في مثل: جلستُ) اسم قد بلغ الغاية في القلة فلم يكن بد من تقويته بالبناء على حركة لتكون الحركة فيه كحرف ثانٍ .. " (21).
ويمضي ابن يعيش على هذا النحو الرائع من التعليل، ومخاطبة العقل مفسراً سبب اختلاف حركات التاء، وسبب اقتصار المخاطب المثنى على ضمير واحد، في حين أن للجمع ضميرين.
بل إن الفراء، وهو المؤسس العملي لمدرسة الكوفة والمتوفى عام 207هـ أي بعد وفاة سيبويه بربع قرن فقط، يحتج لسقوط نون الوقاية في (أنّ) و (كأنّ) و (لعلّ) "بأنها بعدت عن الفعل، إذ ليست على لفظه، فضعف لزوم النون لها، و (ليت) على لفظ الفعل، فقوي فيها إثبات النون، ألا ترى أن أولها مفتوح وثانيها حرف علة ساكن وثالثها مفتوح، فهو كقام وباع .. " (22) أفننكر بعدئذ على هذه العقول الكبيرة أمثال الفراء وابن جني وابن يعيش والرضي جهدها، ونعد ما تعمقوه في النحو تكراراً لكتاب سيبويه؟!
2 - ومعتمد التعليل المنطق، وما من شك أنك تلمح خلف كلام ابن يعيش الذي نقلنا بعضه في الفقرة السابقة ذلك المنطق الإنساني العام الذي لا يختلف فيه اثنان، مثل تعليله انفصال ضمير النصب "وبعضها يتقدم على عامله، نحو "زيداً ضربت" فإذا كنيت عنه مع تقديمه لم يكن إلا منفصلاً لتعذر الإتيان به متصلاً مع تقديمه، لذلك تقول "إياه ضربت" وقال الله تعالى "إياك نعبد وإياك نستعين" (23) .... ".
أما المنطق الذي كان موضع نزاع بين النحاة فهو ذاك الذي ترجم من اليونانية، ومازج النحو، مثل ما لاحظ الفارسي على معاصره الرماني (374هـ) قال: "إن كان النحو ما يقوله الرماني فليس معنا منه شيء، وإن كان ما نقوله نحن فليس معه منه شيء" (24). ومع ذلك لم يسلم الفارسي نفسه من تهمة إقحام المنطق في النحو. ويجدر بالذكر أن لغويي مختلف العصور اتجهوا هذا الاتجاه، ومنهم على سبيل المثال رائدا مدرسة بور رويال في فرنسا في القرن السابع عشر، اللذان كان لقواعدهما ردة فعل عنيفة، لكنها كانت في مطلع القرن العشرين حافزاً لانطلاقة علم اللغة العام.
اصطنع الشراح المتأخرون أساليب المناقشة المنطقية مثل "فان قلت" و "سلّمنا" وهم بذلك يقتفون أثر ابن جني الذي كان منهجه تفنيد كل رد محتمل. غير أن المتأخرين استخدموا أساليب المنطق ومصطلحاته، يردّ الشمني أحد شراح المغني على الدماميني وهو الآخر من شراح المغني –قوله: "قد يقال: ليس بين تأثير الأداة (أن) لتخليص الاستقبال وتأثيرها لنصب اللفظ تلازم بدليل (سوف) " قائلاً "لا دلالة في عبارة المصنف المعنى إلى –يعني ابن هشام- على التلازم، ولو سلم، فالتاثير اللفظي لوجود التأثير المعنوي، لا لماهيته، ولازم الوجود لا يجب ثبوته لكل فرد من أفراد ملزومه بل قد يثبت لبعضها فقط، ككون الجسم ذا ظل في الشمس، فإنه لازم لوجود الجسم، غير ثابت لبعض أفراده كالهواء" (25).
ونقل الشمني شرحاً منطقياً وافياً لقوله تعالى: "ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم ولو أسمعهم لتولوا" (26)، وللحديث المنسوب إلى عمر رضي الله عنه "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" عن التفتازاني صاحب المطول، يدل على مدى اتساع عقول أولئك البلاغيين المشارقة المتهمين بتجميد البلاغة العربية (27).
وإن سلمنا بأن المنطق جمد النحو العربي والبلاغة فمن ينكر أثر التفكير المنطقي في مثل كتاب "الإنصاف في مسائل الخلاف" للأنباري المتوفى عام 577هـ فهو يسرد في مطلع كل مسألة رأي الكوفيين فرأي البصريين، ثم حجج الكوفيين فحجج البصريين، وأخيراً يحكم بينهما مفنداً رأي أحد الطرفين.
3 - وازدهر علم المعاني، ولاسيما بعد كتاب الإمام عبد القاهر الجرجاني "دلائل الإعجاز" واستوى على يد الزمخشري في "الكشاف"، يعقب الزمخشري على الآية الكريمة "ولكم في القصاص حياة" (28) بقوله: "هذا كلام فصيح لما فيه من الغرابة، وهو أن القصاص الذي هو قتل وتفويت للحياة قد جعل مكاناً وظرفاً لها" (29) وهو بهذا يشرح معنى الظرفية المجازية لحرف الجر (في). ويشرح قوله تعالى "ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله" (30): "الأصل ما أمرتهم إلا ما أمرتني به، فوضع القول موضع الأمر رعاية لقضية الأدب الحسن، لئلا يجعل
¥