ملامحها. ذلك أن الرائد هو متقدم قومه الصادق في حديث علي (يدخلون روّاداً ويخرجون أدلة) وحديث عبد القيس (لكنا قوم رادة أي نرود الخير والدين لأهلنا). وقد تفرع على هذا ما جاء في الحديث
(الحمى رائد الموت). قال ابن الأثير (أي رسوله الذي يتقدمه كما يتقدم الرائد قومه) أقول بل هي رسوله الصادق الجاد في طلبه.
ومما يدخل في الصفات الغالبة: السائبة للناقة إذا تركت راغدة لا تُهاج ولا تمنع من ماء أو مرعى، والراحلة للإبل إذا صلحت للرحيل، والسارية لكل ما دب بليل من الهوام، وللسحابة تمطر ليلاً، والسابغة للدرع الواسعة، والصاعقة للنار تسقط من السماء، والجارية للسفينة والأمَة. قال صاحب المصباح (والجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر، ومنه قيل للأمَة جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها). ولفظ (الدابة) الذي أتوا به مثالاً متعارفاً لانتقال العام إلى الخاص، ليس إلا صفة غالبة، وكذلك (الماشية) على أنها من مشت المرأة إذا كثر أولادها. ففي الأساس: (وناقة ماشية: ولاّدة، ومنه الماشية والمواشي على التفاؤل).
* * *
هذا ولابد أن نأتي بأمثلة نكشف بها عن وجه اشتقاق الكلم بعضه من بعض، وسبل تجدد معانيها وتدرّج دلالاتها وتحولها بالنقل من حال إلى حال. وقد يسلُس الأمر ويستيسر فيبدو داني القطوف قريب النجعة، وقد يصعب وينبو فيبدو شديد المطلب وعث المبتغى فيلجئك أن تتلطف له وتتأتى، وتسلك إليه كل سبيل.
قالوا (لا أبالي) ومعناه لا أهتم، فما هو أصل اشتقاقه؟
قال جماعة المبالاة من البلاء بالفتح. والبلاء في الأصل الاختبار. قال المرزوقي في شرح الحماسة (71): (فلان لا يبالي العواقب، يقال ما باليته بالة وبالية ومبالاة وبلاء وما باليت به، وكأنه أخذ من البلاء). ونحو من ذلك في اللسان والتاج. ففي الأول والبلاء الاختبار، وفي الثاني أصل الابتلاء الاختبار.
وليس بعيداً عن هذا قولهم (المبالاة) من (البِلاء) وهو الهم كما حكاه صاحب المصباح عن أبي زيد، وأوردوا البلاء مصدراً لبالَى كما جاء في اللسان والتاج.
وعلل المرزوقي كيف انتهى (بالى) من معنى البلاء وهو الاختبار إلى المفاخرة فكان الامتناع من مفاخرة القِرن استهانة به واستخفافاً، فقال (وقوله لا يبالي العواقب .. كأنه أخذ من البلاء واستعمل في المفاخرة وتعداد الخصال الحسنة عند المنافرة، ثم كثر استعماله حتى صار يقال في الاستهانة بالشيء).
واستشهد بقول الشاعر (مالي أراك قائماً تبالي) أي تفاخر. وقال في موضع آخر: (وقوله تبالي تفاعل من البلاء فإذا قال لا أباليه كأنه أراد لا أحتفل به فأُعادّه بلائي وبلاءه وأفاخره، هذا أصله). أي أن تبادل الاختبار يقود إلى المفاخرة والمنافرة، فإذا أبيت أن تفاخر خصماً أو تنافره أو تكاثره فقد استخففت به.
وأحسب دون ما ذكرناه قول آخرين أن المبالاة من البال وهو الروع والخاطر، انتقل فيه حرف العلة بالقلب فكان وسطاً فأصبح طرفاً، كما قال ابن فارس في مجمله والمزمخشري في أساسه، وقول جماعة أن أصله المبادرة إلى الاستقاء فمعنى لا أبالي لا أبادر إهمالاً له، كما ارتآه ابن فارس في مجمله، وقد انتهى إلى رده إلى (البال) في مقاييسه، وذكره الفيومي في مصباحه.
ولعله قولهم (لا أباليه) متعدياً، إنما يدل على أصله في التعدية لأنه مفاعلة من البلاء، وهو الاختبار، وقولهم (لا أبالي به) محمول على ما انتهى إليه من معنى، وهو لا أحتفل به ولا أعتد.
* * *
وتقول في معنى ما أباليه وما أبالي به، ما أكترث له. وقد جاء في اللغة كرَثه وأكرثه وكرّثه فاكترث. فما معناه الأول؟ أقول دلّ على ذلك الزمخشري فقال في الأساس: (كرّثه الأمر إذا حركه، وأراك لا تكترث لذلك ولا تنوص: لا تتحرك له ولا تعبأ به، وكرّثته الكوارث أقلقته). فالكرث والإكراث والتكريث هو التحريك في الأصل. وكذلك الإقلاق والإزعاج فحقيقتهما التحريك. فإذا كرثك الشيء فقد جعلك تضطرب حقيقة أو مجازاً، ومن ثم قيل كرثه: ساءه، كما حكاه اللسان.
¥