ومما يؤكد ما أقول ويزيده بيانا قوله تعالى: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ... أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فهو مما أنزل الله وهو ذكر من الله أنزله على رسوله وقد تكفل سبحانه بحفظه فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة ولم يقم دليل على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه وهذا من أعظم الباطل ونحن لا ندعي عصمة الرواة بل نقول إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن يقوم دليل على ذلك ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه وأدلته ولا تلتبس بما ليس منها فإنه من حكم الجاهلية بخلاف من زعم أنه يجوز أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحاداً كذباً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده إن نظن إلا ظناً وما نحن بمستيقنين.فتأمل منصفا.
5 - ومما يزيد الأمر وضوحاً في أن الله سبحانه وتعالى حافظ لوحيه إلى قيام الساعة أنه جل وعلا نصب أئمةً أعلاماً جهابذةً حفاظاً أثباتاً نقاداً للحديث يَمِيزُون الطيب من الخبيث، والصحيح من السقيم، والحق من الباطل. قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة. قال: يعيش لها الجهابذة. [انظر: هذا الكلام والذي بعده في: كتاب الجرح والتعديل لابن أبي حاتم (1/ 3، 10)]. فمن هؤلاء الجهابذة:- عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت157هـ)، وشعبه بن الحجاج (ت 160هـ)، وسفيان الثوري (ت161هـ)، ومالك بن أنس (ت179 هـ)، وحماد بن زيد (ت179هـ)، وعبدالله بن المبارك (ت181هـ)، و وكيع بن الجراح (ت196هـ)، وسفيان بن عيينة (ت 198هـ)، ويحيى بن سعيد القطان (ت198هـ)، وعبدالرحمن بن مهدي (ت198هـ)، ويحيى بن معين (ت233هـ)، وعلي بن المديني (ت234هـ)، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف بابن راهويه (ت238هـ)، وأحمد بن حنبل (ت241هـ)، وأبو محمد عبدالله الدارمي (ت255هـ)، ومحمد بن إسماعيل البخاري (ت256هـ)، ومسلم بن الحجاج القشيري (ت261هـ)، وعبيد الله بن عبدالكريم أبو زرعة الرازي (ت264هـ)، وأبو داود السجستاني (ت275هـ)، وأبو حاتم الرازي محمد بن إدريس الحنظلي (ت277هـ).
فهؤلاء الذين لا يختلف فيهم ويعتمد على جرحهم وتعديلهم ويحتج بحديثهم وكلامهم في الرجال والحديث قبولاً أو رداً؛ لاتفاق أهل العلم على الشهادة لهم بذلك. كما أن الله لم ينزلهم هذه المنزلة إذ انطق ألسنة أهل العلم لهم بذلك إلا وقد جعلهم أعلاماً لدينه، ومناراً لاستقامة طريقه وألبسهم لباس أعمالهم. فما أجمع عليه هؤلاء فهو المقبول, وما ردوه فهو المردود؛ سيما وقد قال رسول الله (ص) في حديث عبادة بن الصامت في مبايعتهم الرسول r : بايعنا رسول الله صلى عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر …وعلى أن لا ننازع الأمر أهله. رواه مسلم في صحيحه (3/ 1470). وقد أجمعوا على إثبات إفادة العلم والعمل بخبر الواحد الصحيح كما بينا بحمد الله.
6 - القول بأن أخبار الآحاد لا تفيد العلم قول أتفه من أن يعبأ بردّه. الذي لا يفيد علماً لا شك أن الاشتغال به يعدّ إضاعة للوقت. وهل يعقل أن يمضي الآلاف من علماء هذه الأمة أوقاتهم في جمع وتبويب ودراسة وشرح ما لا يفيد؟!
7 - يعتبر المخالفون أن خبر الواحد مسألة من المسائل الشرعية التي يبحث فيها .. , أقول لهم: منذ متى وهي "مسألة" يشتغل بها أصلاً؟ هل اعتبرها أهل الحديث المتقدمون "مسألة"؟ أم أنها كذلك عند المتكلمين ومن حذا حذوهم. ونحن لم نعتبرها مسألة إلا للرد على زيغهم وضلالهم فحسب .. , فتأمل.
8 - أن هؤلاء المنكرين لإفادة أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم- العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم وأقوالهم أنهم قالوا ولو قيل لهم أنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار وتعجبوا من جهل قائله ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان والثلاثة ونحوهم لم يروها عنهم عدد التواتر وهذا معلوم يقيناً فكيف حصل لهم العلم الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا ولم يحصل لهم العلم بما أخبر به أبوبكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع وتعددت طرقه وتنوعت وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم إن هذا لهو العجب العجاب وهذا وإن لم يكن نفسه دليلاً يلزمهم أحد أمرين: إما أن يقولوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وفتاواه وأقضيته تفيد العلم. وإما أن يقولوا أنهم لا علم لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم وأن النقول عنهم لا تفيد علماً. وإما أن يكون ذلك مفيد للعلم بصحته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فهو من أبين الباطل.
9 - قولهم إن خبر الواحد لا يوجب العلم, يلزم منه الآتي: إن النبي صلى الله عليه وسلم أدَّى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من أصحابه –وهذا لا يجادل فيه كافر- ليؤدوه إلى الأمة، ونقلوا عنه، فإذا لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي –أي النبي (ص) - نعوذ بالله من هذا القول الشنيع والاعتقاد القبيح.
10 - إذا قلنا: أن خبر الواحد لا يجوز أن يوجب العلم, حملنا أمر الأمة في نقل الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً، ولا ينفع، ويصير كأنهم قد دونوا في أمور مالا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه. وهذا هو رأس الباطل بعينه.