وجه الاستدلال بهذا الحديث الخطير: في هذا الحديث صراحة قبول خبر الواحد؛ لأنه صلى الله عليه وسلم لم يرد قول تميم الداري, ولم يقل له: " إن ما تحكيه لي هو من أمور العقيدة, وأنا لا أقبل منك أو من مثلك شيئا في أمور العقيدة والغيب إلا أن ينقل لي بالتواتر". بل لقد أقر النبي (ص) تميما بقوله (ص) بأن ما حدث به تميم موافق لما كان يحدث به أصحابه رضي الله عنهم. وقد صرح بذلك النبي (ص) على المنبر- كما هو واضح في أول الحديث-, فهذا من النبي (ص) إقرار واضح تمام الوضوح لما قاله الداري. وإن ما قاله تميم للنبي (ص) هو أمر غيبي, وهو من أشراط الساعة. وهذا-كما يقول القاضي برهون في: خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته (2: 425) - من صميم الدين, وجب الإيمان به واعتقاده, والتكذيب به تكذيب بالدين. وقد أطلت هنا بعض الشيء ردا لقول بعض الناس: في ادعائه بأن النبي (ص) لم يقر تميما الداري, وادعائه أيضا بأن تصديق الكاذب فيما لا يخل بأصل الدين شيء جائز .. !! ولا يخفاك أيها القارئ اللبيب أن هذا فيه غمز ولمز وتعريض صريح بالصحابي الجليل تميم الداري.
13 - روى أحمد والشافعي في الرسالة (ص411) عن عمرو بن سليم الزرقي عن أمه, قال: "بينما نحن بمنى إذا علي بن أبي طالب على جمل يقول: إن رسول الله (ص) يقول: إن هذه أيام طعام وشرب فلا يصومن أحد, فتبع الناس وهو على جمله يصرخ فيهم بذلك". وهو حديث صحيح.
فهذا صلى الله عليه وسلم كان بمقدوره- كما يقول القاضي برهون في كتابه الرائع الماتع الذي لم تقع عيناي على مثله [خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته] (2: 18) - أن يبعث عددا يفيد التواتر, فلم يبعث إلا واحدا يعرفونه بالصدق. وهو (ص) لا يبعث بأمره إلا والحجة للمبعوث إليهم قائمة بقبول خبره عنه (ص). فمدار الأمر هنا على أن النبي (ص) لا يبعث أحدا إلا إذا كانت الحجة (وهي إفادة العلم والعمل) تقوم به.
14 - عن مرثد بن ظبيان, قال: جاءنا كتاب من رسول الله (ص) فما وجدنا له قارئا يقرأه علينا غير رجل من بني ضبيعة: "من رسول الله (ص) إلى بكر بن وائل: أسلموا تسلموا ". رواه أحمد بسند صحيح.
فهذه قبيلة كاملة, اعتمدت على رجل واحد في قراءة كتاب رسول الله (ص) , فأخبرهم الرجل أن فيه: أسلموا تسلموا, وهذا هو أس العقيدة ولبها, فلم يقولوا: " انتظروا حتى نأتي بعدد التواتر؛ لأن ما يخبرنا به هذا الرجل هو عقيدة تحتاج إلى التواتر". فتأمل ما تفعل العصبية والهوى بأهلهما .. !!
15 - قال (ص): "تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي, لن يفترقا حتى يردا على الحوض". رواه مالك بلاغا, والحاكم مسندا وصححه, وقال العلامة الألباني بإسناد حسن.
فقد أطلق صلى الله عليه وسلم بقوله: "سنتي", ولم يقل " المتواتر من سنتي". وهذا الشمول والعموم يشمل المتواتر والآحاد من سنته الشريفة .. , فتأمل منصفا.
16 - قال (ص): "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". رواه الشيخان.
وما يدعيه المخالف هو البدعة بعينها, لم يدعيها أحد من سلفنا الصالح, إنما قال به جماعة من علماء الكلام المتأخرين. فلم يقل أحد لمن حدثه حديثا عقديا عن رسول الله (ص): خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتواتر .. !!
وتقسيم الحديث إلى متواتر يفيد القطع, وآحاد يفيد الظن هو-كما يقول القاضي برهون
(2: 396) - من صنيع الجهمية والمعطلة والرافضة والمعتزلة, وليس من صنيع أهل الحديث. وهذا هو الثابت في كلام أهل العلم:
1 - قال الإمام مسلم في مقدمة صحيحه (1: 130 بشرح النووي) فيمن طعن في بعض كيفيات رواية الحديث وطرق تحمله: " وهذا القول– يرحمك الله- في الطعن في الأسانيد قول مخترع مستحدث, غير مسبوق صاحبه إليه, ولا مساعد له من أهل العلم عليه. وذلك هو القول الشائع المتفق عليه بين أهل العلم بالأخبار والروايات قديما وحديثا, أن كل رجل ثقة روى عن مثله حديثا, وجائز ممكن لقاؤه والسماع منه, لكونهما جميعا في عصر واحد, وإن لم يأت في خبر قط أنهما اجتمعا, ولا تشافها بكلام, فالرواية ثابتة, والحجة بها لازمة ".
2 - قال الإمام وكيع: "من رد حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس عن جرير عن النبي (ص) في الرؤية-أي رؤية المؤمنين لله يوم القيامة- فاحسبوه من الجهمية". رواه عبد الله بن أحمد في السنة بسند حسن.
¥