تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وأما خطب الشيخ رحمه الله، والتي يسَّر الله لي حضورها إبان دراستي في المرحلة المتوسطة، فقد تميزت بالمعالجات العميقة لقضايا العقيدة وللمسائل الحياتية الحادثة مع ملاحظة الاختصار والإيجاز، وكان له رحمه الله أسلوبه المتميز في الخطابة، الذي يلحظ معه سامعه إخلاص الشيخ لله تعالى، وشدة نصحه للناس، وتميزت خطبه بأنه كان يرتجلها ولا يقرأها من ورقة. فكان جامعه متجهاً لطلاب العلم ولعدد من وجهاء الناس، حيث يؤمونه من أنحاء شتى من مدينة الرياض، إضافة لعامة الناس، فكان المسجد يغص بالمصلين.

وقد كان الشيخ ابن قعود رحمه الله يُولي خُطبه اهتماماً بالغاً بالتحضير لها، وبكيفية أدائها وإلقائها، كما يظهر ذلك في مقدمته لكتاب الخطب، ولذلك فكان الشيخ كثيراً ما يبكي على المنبر لشدة تأثره وعظيم نصحه.

وحدثنا من هو أكبر منا أن الملك فيصل ـ رحمه الله ـ إبان حياته كان يصلي الجمعة في ذلك الجامع، فيسمع خطب الشيخ ويصلي وراءه.

وقد عرفنا عن الشيخ رحمه الله تواضعه ولطفه ورفقه وحرصه على مخالطة الناس، وكانت الابتسامة لا تغادر محياه، وكان لطيف المعشر قريب النفس، تكسوه مهابة العالم في حديثه وشخصيته وسمته، غير أن سماحته وتواضعه تقربه منهم، فكان رحمه الله رقيق القلب سريع البكاء، يبكي في الصلاة ولدى خطابته في النفس.

ومن لطفه وتواضعه ورفقه ما كنا نلاحظه من وقوفه للناس عند باب الجامع بعد خطبة وصلاة الجمعة، يجيب عن أسئلتهم ويحل إشكالاتهم، ولا يستطيل وقوفه في حر الصيف أو برد الشتاء. كان الشيخ في لبسه وهندامه نضراً مرتباً، غالب لباسه البياض، ومع حسن لبسه وجمال منظره إلا أنه ما كان يتكلف ولا يبالغ في هندامه.

ومنذ بضع سنين حلَّ بالشيخ مرضٌ تمادى به، حتى ألزمه بيته، فانعزل عن الناس وخاصةً بعد توالى الفتن والأحداث الجسام، فإنه إبان صحته ونشاطه كان لا يتفرد بالرأي، فكان كثيراً ما يحيل على العلماء الآخرين، أو يطلب عرض المسألة على اللجنة الدائمة للإفتاء، وكان ازدياد مرض الشيخ بعد أن بلغه خبر وفاة شيخه العلامة عبدالعزيز بن باز رحمه الله، حيث كان صدمةً بالغة له أثرت فيه وفي صحته تأثيراً بالغاً.

وبعد: فإن وفاة عالم جليل كمثل الشيخ عبدالله بن قعود لمما يحزن النفوس ويكدر الخواطر، فقد كان رحمه الله من أئمة العلماء الناشرين لسنة سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، بالعلم والعمل، وما أجل ما قاله الإمام أيوب السِّختيانيّ: إنّه ليَبلُغني موت الرّجل من أهلِ السنّة؛ فكأنّما أفقد بعضاً من أعضائي.

ومما يبين أثر موت العلماء على الأمة ما نقله المفسرون في تفسير قول الله تعالى: (أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) [الرعد: 41].

قال عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ خرابها بموت فقهائها وعلمائها وأهل الخير منها، وروي مثله عن غيره أيضاً.

قال الحافظ ابن عبد البر ـ رحمه الله ـ إن هذا التفسير للآية حسنٌ جداً وتلقاه أهل العلم بالقبول. ومما جاء في بيان الرزية بفقد العلماء ما رواه الشيخان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا ".

قال الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في فتح الباري: فدلَّ هذا على أن ذهاب العلم يكون بذهاب العلماء.

وقيل لسعيد بن جبير: ما علامة هلاك الناس؟ قال: إذا هلك علماؤهم.

ونقل عن علي وابن مسعود وغيرِهما قولهم: موت العالم ثلمةٌ في الإسلام لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار.

وقال سفيان بن عيينة: وأي عقوبة أشد على أهل الجهل أن يذهب أهل العلم.

ا

لأرض تحيا إذا ما عاش عالمُها

متى يَمُتْ عالمٌ منها يَمُت طرفُ

كالأرض تحيا إذا ما الغيث حلَّ بها

وإن أبى، عاد في أكنافها التَّلف

إلى غير ذلك من النقول والآثار التي تبين الأثر الكبير الناشئ عن موت العلماء.

وينبغي أن يشار في هذا المقام إلى أن من حق علمائنا أن تبرز مآثرهم وأن تبسط سيرهم حتى يستفيد منها الناس، ولكي يقتدي بهم من بعدهم، ولأجل أن يُعرف ويحفظ فضلهم، وإن الله لحافظٌ دينه ومعلٍ لكلمته، والموفق من استعمله الله في بلاغ دينه والعمل بعلمه وتعليمه ودعوة الناس إليه.

فنسأل الله تعالى أن يغفر لشيخنا عبدالله بن قعود ويرفع درجته في المهديين، وأن يخلفه في عقبة في الغابرين، وأن يغفر لنا وله، وأن يفسح له في قبره وينور له فيه، وأن يخلف على الأمة فيه خيراً.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد. حرر في 8/ 9/1426هـ


منقول
http://alsaha2.fares.net/[email protected]@.1dd84489

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير