فادّعاء اللحن في الحديث باطل، لأنّه إذا أريد به اللحن الذي هو من قبيل الخطأ في الإعراب بحيث لا يُمكن تخريجه على وجه من الوجوه أو على بعض لغات العرب، فهذا ما لا يوجد في الحديث، وإن أُريد أنّ أصل اللحن من الرواة، (فإنّه إذا جاز إسقاط الحديث من دائرة الاحتجاج لأنّ الرواة يلحنون به، جاز إسقاط غيره (كالشعر والنثر)، لأنّ البعض يلحنُ به، وذلك أمر خطير لأنّه ينسحب إلى جميع مفردات الثقافة الإسلامية فيسقطها من الأساس).
ولا يمكن تعميم ظاهرة الرواية بالمعنى على كلّ مساحة الحديث النبوي الشريف، فقد وصل إلينا كثير من الأحاديث بمحكم ألفاظها ولم يطرأ عليها أدنى تغيير أو تبديل في كلماتها، ولا أي لحن أو تحريف في حركاتها وحروفها، كألفاظ القنوت والتحيّات والأذكار والأدعية في الأماكن والحالات الخاصّة وغيرها ممّا وقع التعبّد بخصوص ألفاظها وأمر الشارع بتلاوتها بعينها.
ومن الحديث ما دُوِّن في زمان النبي صلّى الله عليه و آله أو بعده بقليل رغم شروط المنع، ومن ذلك كتبه إلى العمّال والأمراء والملوك، وبعض كتب وصحف الصحابة المدوّنة من حديثه صلّى الله عليه و آله وسلم، فقد كان لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه صحيفة من حديث الرسول صلّى الله عليه و آله وسلم، وكان عبد الله بن عمرو يكثر من كتابة الحديث، وله صحيفة تُسمى الصحيفة الصادقة، وكان أنس بن مالك يكتب الحديث بين يدي رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلم، ولجابر بن عبد الله الأنصاري صحيفة مشهورة من حديثه صلّى الله عليه و آله، ولمعاذ بن جبل كتاب يحتوي على عدّة أحاديث، وغيرهم كثير، (كما أنّ من الحديث ما روي بطرق متعدّدة تصل إلى حدّ التواتر اللفظي، وقد تسالم فيه جميع الرواة على لفظٍ واحدٍ دون تبديلٍ أو تغيير).
وكلّ هذه الموارد ممّا لا تصدق عليه الرواية بالمعنى، ومنها يتبين أنّ تعميم حكم إخراج الحديث عن دائرة الاحتجاج لعلّة روايته بالمعنى ـ كما ادّعي ـ لا يمكن قبوله، ولا التصديق بنسبته إلى النحاة المتقدّمين، إذ من البعيد جدّاً عدم التفاتهم إلى فساد تلك العلّة.
(والرواية بالمعنى موجودة في غير الحديث ممّا صحّح النحاة الاحتجاج به من المنثور والمنظوم من كلام عرب الجاهلية)، واعتمدوه لإثبات قواعدهم النحوية والصرفيّة، وقلّما يخلو كتاب في قواعد العربية من اختلاف آراء النحاة والمدارس النحوية بسبب اختلاف النقل والرواية في الحركات أو الكلمات أو العبارات اختلافاً يغيرّ المعنى والحكم الإعرابي، ومع ذلك الاختلاف فقد أدخلوا تلك النصوص في منظومة الاحتجاج.
هذا مع أنّ التشديد على دقّة اللفظ والمعنى وتواصل الإسناد ومعرفة الرجال، وغيرها من الضوابط المعروفة في علم الحديث، هي أقلّ مراعاة في رواية الشعر وغيره من الفنون الأدبية، ومن هنا كان الشعر أكثر تعرّضاً للحن والانتحال والتغيير من الحديث الشريف، (فإذا كان اللحن عاملاً لإخراج الحديث عن دائرة الاحتجاج اللغوي، فالأولى إخراج غيره لشيوع اللحن فيه ولانعدام الضوابط التي تُعنى بالدقّة في النقل والتوثيق والدراية ومعرفة الصحيح من السقيم).
وكان بعض رواة الشعر معروفاً بكثرة اللحن والانتحال، ومع ذلك فقد أكثر النحاة من الاحتجاج بمرويّاتهم، ولم يكن اللحن وازعاً يحدّ من ذلك الاحتجاج،
ثم إنك تجد أن أهل اللغة يستدلون بأبيات جاهلية رواها الأصمعي وأمثاله ولا يدري ممن أخذها على حجية لفظ أو قاعدة كما وقع في كثير من المواضع.
فالثقة بالأحاديث أكبر من الثقة بالشواهد الشعرية والنثرية.
وقد استعار علماء أصول الفقه كل ما قالوه في طرق حمل النص، وثقة النقلة والرواة، والتواتر، والآحاد، والمرسل، والمجهول وأمثالها مما لم يلتزموا به في نقلهم لغة العرب، الأمر الذي دعا الفخر الرازي، رحمه الله، إلى أن ينحو باللائمة على أصحابه الأصوليين، (لأنهم لم يقوموا هم بهذه المهمة بدلا من النحاة) ـ وقد نقل النحاة المتأخرون نص قوله هذا ـ قال: «والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خبر الواحد أنه حجة في الشرع، ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة والنحو، وكان هذا أولى، (وكان من الواجب عليهم أن يبحثوا في أحوال اللغات والنحو)، وأن يفصحوا عن جرحه وتعديله، كما فعلوا ذلك في رواة الأخبار، لكنهم
¥