1 ـ من الفريق الثاني الذين عرفوا الحرف بأنه يدل على معنى في نفسه محمد بت إبراهيم النحاس الحلبي صاحب كتاب إعراب القرآن، فقد ورد في كتاب اللامات للدكتور عبد الهادي الفضلي نقلا عن بغية الوعاة ما نصه: " كان محمد بن إبراهيم النحاس الحلبي النحوي يذهب إلى أن الحرف معناه في نفسه على خلاف قول النحاة قاطبة
ـــــــــــــــ
1 ـ شرح ابن الناظم على الألفية.
2 ـ الجنى الداني ص20، 22.
3 ـ النحو الوافي ج1، ص62، 63.
4 ـ اللمع ص 91.
أن معناه في غيره "، وقد تابعه في هذا الرأي أبو حيان الأندلسي المتوفى سنة 745 هـ، قال ابن هشام في شرح اللمحة البدرية: " والثاني دعوى دلالة الحرف على معنى في غيره وهذا وإن كان مشهورا عند النحويين إلا أن الشيخ بهاء الدين أبن النحاس نازعهم في (التعليقة) وزعم أنه دال على معنى في نفسه، وتابعه المؤلف (ابو حيان) في شرح التسهيل " (1).
واستطرد الفضلي قائلا: " وأشار الدكتور هادي نهر في هامشه على اللمحة البدرية إلى دليل ابن النحاس بالتالي: وحجة ابن النحاس في دلالة الحرف على معنى في نفسه هي أنه إذا خوطب بالحرف من لا يفهم موضوعه لغة كان كذلك، وإن خوطب به من يفهمه فإنه يفهم منه معنى، عملا بفهمه موضوعَه لغة، كما إذا خوطب بـ " هل " من يفهم أن موضوعها الاستفهام، وكذلك سائر الحروف، قال: والفرق بينه وبين الاسم والفعل أن المعنى المفهوم منه مع غيره أتم من المعنى المفهوم منه في حال الإفراد بخلافهما، فالمفهوم منهما في التركيب غير المفهوم منهما في الإفراد " (2).
وبعد أن استعرضنا أقوال الفريقين يمكننا أن ندرك أن الفرق واضح بين الرأيين، فالفريق الأول ـ ويشمل جل النحويين ـ مجمع على أن معنى الحرف لا يدرك في حالة انفراده، أي إذا لم يكن الحرف في بناء من أبنية الكلام المفيد، كأن نذكر حرف الجر " في "، أو " إلى " دون ارتباطه بكلام لآخر في جملة مفيدة يحسن السكوت عليها، وإنما يدرك معنى الحرف، أو يكون له دلالة لغوية عندما يكون في جملة مفيدة، لأنه يكتسب معناه، أو يظهر معناه الكامن في ذاته من خلال تلاحمه مع مفردات الجملة المساندة له، وهذا معنى قولهم "في غيره "، فالضمير في غيره عائد إلى الألفاظ، بمعنى أن الحرف لا يظهر معناه إلا من خلال انضمامه إلى ألفاظ أخرى،
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
1، 2 ـ اللامات للدكتور عبد الهدى الفضلي ص 56
نقلا عن شرح اللمحة البدرية ج1، ص214.
فكلمة " في " مثلا لا يظهر معناها إلا إذا انضمت إلى كلمات أخرى، كأن تقول: في الإبريق ماء.
فمعنى الظرفية الذي تدل عليه " في " لم يظهر إلا من خلال انضمامها إلى كلمة " ماء "، و كلمة " الإبريق ". وشأن الحرف في ظهور معناه في هذه الحالة، كشأن المبتدأ والخبر، فكل منهما متمم الفائدة للآخر، أي لا يتم معنى المبتدأ باعتباره مبتدأ إلا حيث وجد معه الخبر، وكذلك الحال بالنسبة للحرف، فمعناه لا يظهر إلا حيث كان معه كلام آخر يوضح دلالته.
أما رأي الفريق الثاني وقد قال به قلة من النحاة ندرك منه أن دلالة الحرف عندهم لا تحتاج إلى مساعد، أو بتعبير أوضح لا يحتاج إلى بناء لغوي يلتحم معه حتى تظهر دلالته، وإنما تظهر دلالته في نفسه، أي منفردا، كما تظهر حين ارتباطه بكلام آخر، وهذا ما قصده أصحاب هذا الرأي من عبارة " في نفسه "، أي أن الحرف يدل على معناه منفردا، أو ضمن جملة مفيدة، كما تدل الأسماء، والأفعال على معناها منفردة، أو ضمن جملة، ومثال ذلك إذا قلنا " تحت " فإنها تدل على معنى في حالة انفرادها، كما تدل على نفس المعنى في حالة تركيبها في جملة، كقولنا " جلست تحت الشجرة " فدلالة " تحت " وهي اسم منفرد على معنى التحتية كدلالتها على نفس المعنى وهي في بناء لغوي مفيد، وكذلك إذا قلنا " على " وهو حرف جر يدل على معنى العلو منفردا، كما يدل على نفس المعنى عندما يكون في جملة مفيدة، كأن نقول: " الكتاب على المكتب "، أو " العصفور على الغصن "
وخلاصة القول أن المقصود من دلالة العبارة التي قال بها أصحاب الرأي الثاني " في نفسه " هو أن الحرف يدل على معنى سواء أكان منفردا، أم في تركيب من تراكيب الكلام المكون لجملة مفيدة.
¥