تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وفي رأيي المتواضع أن الحرف وإن لم يدل دلالة واضحة على معناه في حالة انفراده، كما هو الحال في قسيميه من تقسيم الكلمة " الاسم، والفعل " إلا أنه يحمل في نفسه دلالة ولو خفية يلمحها من تفهم موضوعه لغة، وأعني بذلك من كان ذا نظر ثاقب، وفاحص في دراسة النحو، ولديه إدراك واع لسبر أغوار الحرف، والوقوف على معناه الخفي، ولم يكن هذا الأمر مقصورا على الحرف وحده من تقسيم الكلمة، بل هو أيضا في الاسم والفعل، وإن كان الأخيران أوضح معنى في حال انفرادهما.

والحرف من وجهة نظري كحجر غير مستو موضوع مع حجارة أخري مستوية، فهو لا يظهر نفعه في نظر الإنسان العادي، أما في نظر صاحب الصناعة، وأعني " البناء " الذي يبني الجدار، فهو ذو نفع منفردا، وغير منفرد كغيره من بقية الحجارة المستوية، وإن كان نفعها يظهر واضحا في نظر الجميع، فنفعه يكون أكثر وضوحا عندما يشيد به بناء متكامل مع بقية الحجارة المستوية الأخرى. فإذا عوضنا في تمثيلنا السابق عن الحجر غير المستوي بالحرف، وعن الحجارة المستوية بالاسم، أو الفعل، أو بهما معا فإننا نلحظ المعنى المراد من ذلك التمثيل. فالحرف يصدق عليه ما يصدق على ذلك الحجر غير المستوي، فهو قليل النفع، أو لا قيمة لغوية له منفردا، أو لا يكون واضح الدلالة إذا لم يكن في بناء لغوي مفيد، وهو مع ذلك يحتفظ في نفسه بمعنى يلمحه المشتغل بصناعة اللغة، والأمر نفسه يكون في الاسم والفعل، وإن كانت دلالة كل منهما الإفرادية، والقيمة اللغوية لهما أكثر وضوحا، وأجلى رؤية من الحرف، ولكن إذا ما وضع كل منهما في بنية الجملة كان المعنى أظهر، وأبين، والقيمة اللغوية حاصلة.

ويمكننا أن نوضح ما ذهبنا إليه آنفا بالتمثيل العملي على النحو التالي:

فإذا قلت " في "، أو " إلى "، أو " من " فهي أحرف جر قد لا يظهر معنى كل منها منفردا لغير المتخصص في دراسة النحو، أو لمن لا يستوعب موضوعها في اللغة، بينما يظهر معناها منفردة ولو بصورة ضئيلة يلمحها من هو على فهم بموضوعها لغة، فحرف الجر " في " لا بد وأن يوحي إلى المخاطب به، أو الدارس بصفة عامة معنى معين يستوحى منه أن هذا الحرف هو أحد أحرف الجر، وقد تكون الرؤية في ذهنه أوضح عندما يعرف أنه أيضا يدل على الظرفية، ولكن متى وضع هذا الحرف " في "، أو غيره من الحروف الأخرى في جمل مفيدة يبرز معناه الذي كان يلمح لمحا، ويكون واضحا جليا للمتخصص، بل وربما لغير الدارس المتخصص، ويدرك أن معنى " في " يفيد الظرفية المكانية إلى جانب الربط بين جزئي الكلام الذي يشكل معه الجملة المفيدة، كأن نقول مثلا " الكتاب في الحقيبة "، فلو نزعنا حرف الجر من بين جزئي الجملة، وهو الكتاب من جانب، والحقيبة من جانب آخر لصبح معنى كل من الاسمين لا يفيد معنى يحسن السكوت عليه، وإن كان لكل منهما معناه الانفرادي في نفسه، وهو معنى أوضح من ذلك المعنى الذي يحمله حرف الجر " في "، ولكن متى وضعت الألفاظ الثلاث في تركيب واحد وثق الحرف عرى المعاني الظاهرة والخفية في كل من الاسمين من ناحية، وفي نفسه من ناحية أخرى، ولو كان الأمر غير ذلك لكان بإمكان الاستغناء عن الحرف كلية وهذا لا يصح. وما قلته في الحرف أقوله أيضا في الاسم والفعل، وإن كان المعنى الانفرادي لكل منهما أكثر وضوحا من معنى الحرف، وإذا ما وضع كل منهما في جملة مفيدة كانا أكثر وضوحا، وأشد التصاقا لإظهار المعنى العام الذي يراد منهما.

ولا يخفى علينا أن هناك بعض التراكيب اللغوية التي تدل دلالة أكيدة على أن الحرف قد يفيد دلالة انفرادية أي: " في نفسه "، وإن كانت هذه الدلالة غي جلية كما هو الحال في الاسم، والفعل، ولكنها مع ذلك دلالة توحي ولو من بعيد بأن الحرف لا يخلو من معنى في نفسه، ومن هذه التراكيب قولهم: " رغبت في " فحرف الجر " في " في التركيب السابق هو الذي حدد المعنى المطلوب، وهو الرغبة في الشيء، وكذلك الحال إذا قلنا: " رغبت عن " فالحرف " عن " هو الذي حدد معنى عدم الرغبة، والله أعلم.

وهناك نقطة أخيرة سنعرج عليها بالحديث عن الحرف، وهي تسمية الحرف حرفا، وما حول هذه التسمية من خلاف أيضا.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير