تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

"إلف الشرك"، إن كانوا على الشرك، أو "إلف المعصية"، إن كانوا على المعصية.

ومن ثم يمكن التحدث عن رحمة الله، عز وجل، إذ بعث الرسل لتصحح مسار الفطرة البشرية إذا انتكست، لتعود إلى الجادة، فالرسل كما يقول شيخ الإسلام رحمه الله: ما بعثت إلا لتكمل الفطرة، فمهمتها الجليلة إزالة العارض، كالطبيب يصف الدواء النافع للمريض إذا عرض له الداء، فيأتي الرسول ليزيل ركام الشرك والمعصية ويبرز الفطرة الأولى.

ومن ثم يمكن الانطلاق من القول السابق، ومن دلالة الفطرة على وجود الله، عز وجل، إلى الهدف الأسمى وهو توحيد الله، عز وجل، بأنواعه الثلاثة، فالفطرة الصحيحة التي دلت المخلوق على خالقه، تقضي بعبادة هذا الخالق الرازق المدبر، وعبادته لا تعرف إلا من جهة الرسالة السماوية، فلزم من ذلك إتباع المرسلين ظاهرا وباطنا، ورسالة محمد صلى الله عليه وسلم هي الرسالة الخاتمة التي توج الله، عز وجل، بها رسالات إخوانه من الرسل، فكلهم دعا إلى التوحيد، ولكن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم امتازت بعالميتها وشريعتها المفصلة التي كانت وسطا بين شريعة اليهود الشديدة وشريعة النصارى اللينة، ولذا قال القائل: بعث موسى صلى الله عليه وسلم بالجلال، كناية عن شدة شريعته لتناسب بني إسرائيل ذوي الأفئدة المتحجرة، وبعث عيسى صلى الله عليه وسلم بالجمال، كناية عن سهولة شريعته التي نسخت بعض أحكام التوراة وأحلت لبني إسرائيل بعض ما حرم عليهم ولذا غلب على أتباع النصرانية الرقة التي خرجت عن حد الاعتدال لتصل إلى التساهل في الأحكام الشرعية بدعوى تغليب الجانب الروحي على الجانب الجسدي فوقعوا في غلو الرهبانية والتنطع في الدين، وبعث محمد صلى الله عليه وسلم بالكمال فشريعته جامعة لخيري الروح والجسد.

ومن ثم يمكن التحدث عن مظاهر انتكاس الفطرة التي يعيشها العالم الغربي، اليوم، ومظاهرها أكثر من أن تحصى في كل المجالات: الدينية والاجتماعية والأخلاقية، مع التنبيه على تعاسة أولئك القوم وإن بدت عليهم أمارات السعادة، ففطرتهم تصرخ مطالبة بحقها بعد أن حصلت الأجساد كل متعها، فالقوم يأكلون ويشربون ويتناكحون ويرقصون في الملاهي الليلية حتى تنهار أجسادهم ويصرخون في حفلات الغناء الصاخب، ونشاهدهم في هذه الحفلات يذرفون الدموع إذا ظهر نجمهم المفضل على خشبة المسرح، لتعلق قلوبهم المعذبة بمخلوق مثلهم، ويتشاجرون في الاستادات الرياضية حمية لفرقهم حتى يقتل بعضهم بعضا، وكل هذه محاولات فاشلة لإسكات صوت الفطرة التي تنادي على صاحبها: هلم إلى الطريق الأول، هلم إلى سعادة الدارين، ولكنه يرفض عنادا واستكبارا، ويأبى إلا أن يعيش تعيسا حزينا، يقاوم فكرة الانتحار مرة بعد أخرى، وربما لجأ إليها إذا ضاقت به الدنيا، ومعدلات الانتحار في بلادهم خير شاهد على ذلك فتعسا لقوم أعرضوا عن طريق المرسلين، والتركيز على هذه النقطة أمر بالغ الأهمية.

ومن ثم يجب التركيز على عدم تعارض الشرائع مع الفطر، وهو أمر بالغ الأهمية في حياة المسلمين اليوم، لأن معظم دعوات العلمانيين، تتركز على هذا الجانب: أن الشريعة لا تصلح لقيادة البشرية في عصر الإنترنت والفضائيات، وإنما هي أحكام تقيد حرية الفرد وتحجر على فكره، كما زعم أولئك المنهزمون أمام حضارة الغرب المادية، فشريعتنا، تنظم علاقة الفرد بربه، وعلاقته بمجتمعه، ولا ترفض أي جديد إلا إن خالفها، فلسنا بحاجة لآداب وشرائع الغرب، وإنما نحتاج منهم العلم الدنيوي الذي فاقونا فيه، وليت العلمانيين نجحوا في نقل شيء منه، وإنما همهم الأول نشر أفكار الإلحاد والدعارة المستوردة من الغرب، وعجبا لمن زعم أن فنون التعامل لا يجيدها إلا الغرب، وأصول اللياقة في المأكل والمشرب ........... الخ لا تجدها إلا في أمم الغرب، ولو راجع المسكين أحكام دينه، لعلم أنها لم تترك أمرا كبيرا ولا صغيرا في حياة الفرد إلا اعتنت به من توحيد الله، عز وجل، القضية الكبرى التي خلق الكون من أجلها، إلى أدق تفاصيل المطعم والمشرب وقضاء الحاجة ...... الخ، ولكنها الهزيمة الساحقة أمام بعض العلوم الدنيوية وأمام الوجوه الوسيمة والملابس الأنيقة التي تخفي ورائها قلوبا خربة وفطرا منكسة لم تحسن حتى الاستمتاع بالملذات الدنيوية، وإن بدا الأمر خلاف ذلك، وما ظنك بإنسان لا يعرف أصول النظافة والتحرز من النجاسات، فلا يستبرأ من بول أو غائط، ولا يعرف أكثر سنن الفطرة التي أرشدتنا شريعتنا الغراء إليها، فالفطرة منكسة حتى في الأمور الجسدية المادية فضلا عن الأمور الروحية المعنوية، وهذا الجانب أيضا، مما يحسن التركيز عليه، وبشدة، لأنه فيصل بيننا وبينهم، فمفهوم الفطرة عندنا شامل لكل جوانب الحياة.

هذه رؤوس أقلام أسأل الله، عز وجل، أن ينفعك بها، لأنها تحتاج إلى مزيد بسط وتقريب، وأهم ما فيها بيان الصلة الوثيقة بينها وبين حياة الأفراد في المجتمع المسلم، فالفطرة، كما قلت في مشاركتك الكريمة، تندرج تحتها مفاهيم عدة: ففطرة في العقائد وفطرة في الأحكام، وفطرة في الأخلاق ........ الخ.

والله أعلى وأعلم

وأعتذر عن الإطالة.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير