تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فالعيب يقع أساسا فى هذه المنطقة، منطقة اللامبالاة بالقيم الثقافية والعقلية وكذلك الترهُّل الذهنى والذوقى. ودعنا من حكاية ارتفاع سعر الكتاب، فالعرب ليسوا كلهم فقراء، وهم جميعا، سواء منهم الفقراء والأغنياء، حريصون على اقتناء أدوات الحضارة الحديثة مهما كانت غالية الثمن. ثم هاهى ذى إصدارات "مكتبة الأسرة" مثلا فى مصر تباع بأسعار زهيدة، فهل تغير المصريون وأضحَوْا أكثر حُبًّا للقراءة؟ أستطيع أن أجيب بملء يقينى على ذلك السؤال بالنفى، وإلا فأين موضع المكتبة فى البيت المصرى؟ إن المكتبة عندنا، إن وُجِدَتْ، ليست فى معظم الأحوال أكثر من مكان توضع فيه التحف وجهاز المِرْناء وبعض الدباديب، وكان الله يحب المحسنين! ترى كيف يمكن أن يسيطر على لغته القومية من لا يقرأ شيئا فى هذه اللغة ولا يستطيع أن يتذوق روائعها بل لا يبالى بأن يتذوق هذه الروائع، وإذا حدثتَه عنها كنتَ كمن يتحدث عن إحدى غرائب واق الواق؟ على أن هذا لا يعنى أن المنهج الذى تعلَّم به اللغة العربية هو منهج سليم، فالواقع أن أساتذة النحو غالبا ما يحصرون أنفسهم فى دائرة المعلومات النظرية، فترى الطلاب لهذا يحفظون القواعد حفظا، وقد يستطيع بعضهم (بعضهم فقط) أن يُعْرِبوا ما يُطْلَب إليهم إعرابه من كلمات أو جمل، لكنهم لا يقدرون مع هذا أن يقرأوا أو يكتبوا على نحوٍ صحيح! كذلك فدروس النحو والصرف محشوة بالتفصيلات التى قلما تفيد عارفها فى ميدان الواقع. وأنا أزعم أن مجموعة القواعد التى يحتاح إليها الشخص العادى لكى يكتب ويقرأ على نحو سليم ليست بالكثيرة ولا المرهقة. والمهم هو الاهتمام بالدروس التطبيقية التى يردد فيها الأستاذ الأمثلة الأساسية فى كل درس، ويظل الطلاب يكررونها بعد ذلك فى المدرسة والجامعة والبيت قراءة وكتابة حتى تنطبع فى آذانهم وأيديهم وأذهانهم وتنطلق بها ألسنتهم وأقلامهم كأنها سليقة فيهم. والمهم أيضا أن يقتنع الطالب بأن اللغة قيمة قومية ودينية وثقافية واجتماعية تستحق أن يبذل فيها الجهد والتعب، أما قبل ذلك فكلا وألف كلا. ولقد كنت أفعل هذا منذ صباى أنا وزميل لى أصبح الآن أستاذا فى الجامعة مثلى حتى أتقنّا لغتنا مبكرا دون أن نجد حولنا من يأخذ بأيدينا، بَيْدَ أن تحمّسَنا لهذه اللغة وأدبها وطموحَنا من البداية إلى أن نكون من الكتاب والأدباء كان نعم المعين! وقد كان هذا هو نفسه الأسلوب الذى جريت عليه مع الطلاب حين عُهِد إلىّ، فى أواسط السبعينات من القرن البائد، أن أدرّس للطلاب، وأنا لا أزال مدرسا مساعدا، مادة التدريبات النحوية رغم عدم تخصصى فى النحو أصلا، فكان اهتمامى كله تقريبًا منصبًّا على التطبيقات وعلى تمرين الطلاب على القراءة والكتابة الصحيحة. وقد أثمر هذا الأسلوب مع عدد منهم أصبحوا بدورهم فيما بعد دكاترة فى الجامعة، على عكس الباقين الذين لم يكونوا مهتمين بالأمر، فإنهم لم يستفيدوا كثيرا كما لا أحتاج أن أقول. أما الآن فإن الغالبية الرهيبة من الطلاب لا تريد أن تبذل أى جهد حتى إنهم لا يفكرون مثلا فى الرجوع إلى المعجم، بل لا يعرفون كيف يستعملونه إذا حدثت المعجزة وبدا لهم أن يستفسروا عن معنى كلمة من الكلمات، فيأتون إلينا ويسألوننا عما يريدون. فإذا نبهناهم إلى أنهم ينبغى أن يرجعوا بأنفسهم إلى هذا القاموس أو ذاك أخذوا ينظرون إلينا فى استغراب بل فى بلاهة وكأننا نحدثهم عن عجيبة من عجائب الحياة! والغريب أن هؤلاء الطلاب أنفسهم إذا ما ألقت الأقدار بواحد مثلى فى طريقهم بعد تخرجهم واشتغالهم ببعض الحرف أو الصنائع التى يلجأون إليها فى هذا العصر الممتلئ بالبطالة فإنهم يستطيعون بمنتهى السهولة خداعى أنا الذى أظن نفسى ذكيا، ويلعبون بى وبأسلافى بعبقرية شيطانية عجيبة كما يلعب الحواة بالبيضة والحجر! والسؤال هو: كيف قد صاروا أذكياء على هذا "النحو" يا ترى، وهم الذين لم يكونوا يفهمون شيئا فى "النحو"؟ إنها كراهية العلم، والبراعة مع ذلك فى الفهلوة وشغل الثلاث ورقات! إنهم أبناء مجتمعهم وبيئتهم! وللتفكهة أذكر أن أحد أساتذة النحو المشهورين كان قد ألف مذكرة فى تلك المادة سماها: " تحفة الطلاب، فى النحو والإعراب"، فكنت، لشدة ضيقى بمستوى الطلاب المتدنى والمخجل فى لغتهم، أقترح عليه أن يغير تسميتها إلى "ضَرْب القبقاب، فى رؤوس الطلاب"،

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير