تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فيضحك حتى يستلقى على قفاه!

وهنا أود أن أوضح شيئا، ألا وهو أن الخطأ سيظل ملازما لكل من يتحدث اللغة الفصحى رغم ذلك، لا لعيب فى هذه اللغة بل بسبب الطبيعة البشرية التى لا تنفك عن الخطإ مهما حاولت التحرز منه. وقديما قال رسولنا الأعظم: " كُلّ بنى آدم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون". والتوبة من الخطإ فى هذا المجال تكون ببذل مزيد من الجهد فى مراجعة القواعد وفى تطبيقها فى الكلام والكتابة. وهذا الكلام لا يقتصر على فصحانا وحدها بل على كل فصحى، ومنها فصحى الإنحليزية والفرنسية والألمانية التى أخشى أن يكون حديث الأستاذ الشوباشى عن تفوق أهلها فى استعمالها قد أوحى للقارئ أنهم لا يخطئون فيها كما نخطئ نحن فى فصحى لغتنا الأم! كذلك أود أن ألفت النطر إلى أن الخطأ فى استخدام اللغة لا يقتصر على المستوى الفصيح فحسب، بل ينسحب أيضا على المستويات العامية. كل ما فى الأمر أننا، بسبب عدم وعينا بقواعد العامية، ولأن الأحاديث اليومية التى نستخدم فيها اللهجات العامية ليست مناسبات رسمية، لا نلتفت للخطإ فيها، وبخاصة أننا لا نبتغى فيها المتعة والأناقة كما فى الفصحى، بل نكتفى منها عادةً بمجرد التفهيم وتوصيل الفكرة التى نريد الحديث عنها بأى سبيل. بالضبط مثلما لا نلتفت لخطإ من تخطئ فى المشى، بينما نتنبه بحدةٍ لمن تخطئ فى حركات الرقص مثلا، ومثلما لا نلتفت لإهمال المرأة فى لبس مباذل البيت، على حين تكون أعيننا مُفَنْجَلَة لأى تقصير فى طريقة ارتدائها لملابس السهرة ... إلخ. إننا فى الواقع لا نكف عن البابأة والتأتأة والفأفأة والتلعثم والتردد وقطع الجملة قبل تمامها واستخدام الكلمات فى غير موضعها واللجوء إلى كثير من جمل الحشو لملء الفراغات فى أحاديثنا العامية اليومية، وكثيرا ما نخطئ أيضا فى نطق هذا اللفظ أو ذاك، وتركيب هذه الجملة أو تلك، بيد أننا لا نتنبه لذلك ولا نلقى إليه بالا لأن اللهجة العامية لا علاقة لها بالرسميات ولا يُقْصَد بها إلى الإمتاع، وليست لها فى أذهاننا قواعد واضحة كالفصحى نضعها نصب أعيننا لنتحاكم إليها. ويوم تصبح رسميا، لا قدر الله، هى لغة الكتابة والمحاضرات والندوات والصحافة والإذاعة وندرس قواعدها فى المدارس والجامعات، فعندئذ سوف نتنبه لما نقترفه فيها من أخطاء! وكل هذا رغم أننا لا نكفّ لحظة عن استعمالها، على عكس الفصحى التى لا تستخدم إلا فى التأليف والمحاضرات والندوات والخطب وما أشبه! وبالمناسبة فقواعد العامية كثيرة ومعقدة على عكس ما نظن. أقول هذا من واقع قراءتى لقواعد بعض اللهجات العربية، ومنها لهجتنا المصرية التى أذكر أنى راجعت آجُرّوميّتها، أيام أن كنت أدرس للحصول على درجة الدكتوريّة فى بلاد جون بول، فى كتاب وضعه أحد الضباط الإنجليز على عهد الاحتلال البريطانى لمصر يقع فى عدة مئات من الصفحات الممتلئة بكثير من التفصيلات والاستثناءات التى ليس لها ضابط، مما يسبب للذهن الدوار ... وهَلُمَّ جَرًّا.

وحجة كاتبنا فى المناداة بالتغيير الذى يدعو إليه هى أن العربية الفصحى لم تتطور قواعدها منذ خمسة عشر قرنا بحيث لم تعد ملائمة للتعبير عما نريد فى عصرنا هذا (ص 13، 55، 71)، بل إنه ليدّعِى أن العرب قد هجروا فصحاهم تماما (ص 135). وإنا لنسأله: متى وكيف عجزت اللغة الفصحى عندنا عن مجاراة العصر أو التعبير عن أية فكرة أو عاطفة نريد التعبير عنها؟ هاهى ذى الكتب تصدر فى بلاد العرب فى كل التخصصات مكتوبة بالفصحى، ولم نسمع أن أحدا قد شكا من أنه عاجز عن التعبير من خلالها عما يريد لا فى الفلسفة ولا فى الطب ولا فى الجيولوجيا ولا فى الكيمياء ولا فى الطبيعة ولا فى القانون ولا فى الاقتصاد ولا فى السياسة ولا … ولا… رغم أننا لسنا فاعلين حضاريا فى هذه الطور المخزى من تاريخنا بل مجرد متلقين فى معظم الأحوال. فما بالنا لو أننا كنا من المبدعين مثل أسلافنا فى أيام عز الحضارة العربية حين كان العالَم يتعلم على أيديهم ويفتح آذانه وأعينه وقلبه لما يقولون؟ ثم هاهو ذا كاتبنا نفسه قد ألف كتابه بهذه الفصحى التى ينعى عليها عجزها وتخلفها! أليس هذا هو التناقض بعينه؟ ومن قبل ردد سلامة موسى هذه الفرية التى افتراها جماعة من المبشرين والمستشرقين ممن يسوؤهم أن يَرَوُا القرآن أمام أعينهم فهم يعملون بكل ما عندهم من كيد وخبث

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير