تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

على السواء تمام الإرباك. وألقى أمين الخولى محاضرة عن التجديد فى النحو عام 1943م نادى فيها بتنوين كل الأسماء وإلغاء باب "الممنوع من الصرف" إلى غير رجعة، وإعراب المثنى بالألف دائما، وإلزام "أبوك وأخوك" الواو باستمرار، وإجراء جمع المذكر السالم فى كل أحواله مجرى كلمة "حين"، أى بالياء والتنوين مثل الاسم المفرد. ويمكن قراءة هذه المحاضرة فى كتابه "مناهج تجديد فى النحو والبلاغة والتفسير والأدب". وقبل هذا كله نادى بعض المستشرقين والمبشرين، مثل ولهلم سبيتا وسلدين ولمور ووليم ولكوكس، بهجران الفصحى واستبدال العامية بها، وتابعهم فى هذه الدعوة المشؤومة بعض العرب من مسلمين ونصارى: ومنهم عثمان صبرى، الذى ألف فى ذلك بحثين على الأقل وطبق دعوته فى روايتين كتبهما على النحو الجديد الذى اقترحه بلغة متكلفة مصطنعة، ولويس عوض، الذى كتب "مذكرات طالب بعثة" بلغة لا ندرى من أين أتى بها، لأنها لا تشبه أيا من العاميات التى نعرفها، وسعيد عقل الصليبى اللبنانى الذى كان يريد، لا تَرْك الفصحى فقط، بل إحياء النزعة الفينيقية أيضا من بعد أن أجحمها الله ... ترى ما الذى يبقى من لساننا العبقرى بعد هذا كله؟ وما سر هذه الدعوات المحمومة التى انطلقت أول ما انطلقت من قِبَل المستشرقين والمبشرين؟ إنهم يزعمون أن الفصحى لا تستطيع استيعاب العلوم الحديثة أو التعبير عنها؟ فهل يا ترى تستطيعه اللهجات العامية المتخلفة التى لا تاريخ لها على الإطلاق فى مجال الآداب أو العلوم أو الفنون، اللهم إلا بعض الأزجال قديما فى الأندلس، وهذه الأغانى والمسرحيات التى نسمعها فى المذياع أو نشاهدها على المسرح أو فى المرناء فى عصرنا الحالىّ، ثم الأمثال الشعبية، وهذا كل ما هنالك؟ ثم ما القول فى هذه الآلاف المؤلفة من الكتب والبحوث والمقالات والدراسات والمحاضرات والأحاديث العلمية التى صبها أصحابها فى قالب الفصحى ولم يَدُرْ فى خَلَدهم للحظةٍ أن يكتبوها بالعامية؟ أَوَعلينا أن نلغى عقولنا ونصدق هذا التدليس؟ إن مثل هذه الشبهات لا تجوز على أى شخص له عقل فى رأسه.

والآن نريد أن ننظر فيما قاله كاتبنا لنناقشه. ولكن لا بد أولا من إيضاح نقطة على جانب كبير من الأهمية، فقد يستغرب بعض القراء موقفى هذا الذى يبدو متشددا ويتصورون أنه مبالغة فى الخوف مما لا مخافة فيه. والواقع أن المسألة ليست كما تبدو للعيان، إذ إن هذه الخطوة التى يدعونا المؤلف إلى اتخاذها هى بمثابة خلع الطوبة الأولى فى الجدار، التى إن تم خلعها كان خلع الأحجار الباقية أسهل شىء فى الوجود كما هو معلوم، فمعظم النار من مستصغر الشرر، ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. وهناك مثالان قريبان جدا خبرتهما بنفسى، إذ صدر منذ عامين كتاب يحمل فيه صاحبه على سيبويه ويدعو إلى نبذ الإعراب والفصحى والاستعاضة عنها بالعامية، وفكرتُ فى كتابة رد عليه رغم أن أحدا لم يسمع به من قبل ورغم ما يعكسه الكتاب من جهل مبين وتهور أحمق. وكان رأى بعض من عرفوا بنيّتى أنه لا داعى لأن أشغل نفسى بشخص مثله ليس على شىء من العلم. إلا أننى كان لى رؤية أخرى، فقد تنبهتُ إلى مغزى أن تنشر له كتابَه التافهَ دارُ نشرٍ كبيرةٌ مشهورةٌ وفى حلةٍ جذابةٍ فاخرة، وأن يكتب عنه بعض الصحافيين واصفا إياه بأنه حلقة فى سلسلة اللغويين الكبار بدءا بابن جنى، وانتهاء بإبراهيم اليازجى. المهم أننى، بعد أن أصدرت بعدة أشهرٍ كتابى "دفاع عن النحو والفصحى ـــ الدعوة إلى العامية تطلّ برأسها من جديد"، الذى فنَّدْتُ فيه الهراء الماسخ الذى هرف به صاحبنا، علمت من أحد الأصدقاء أن ذلك الجاهل المتهور قد أصدر كتابا آخر يهاجم فيه كتب الأحاديث والمحدّثين، على الرغم من أنه كان حريصا، أثناء هجومه على النحو وسيبويه، أن يطمئننا بأن دعوته لا تَمَسّ الدينَ بأى سوء. وهاهو ذا الدين قد مسَّه هو نفسه لا سواه من خلال إنكاره الأحاديث النبوية التى تمثل المصدر الثانى للتشريع فى الإسلام، ولم تمرّ على طمأنته الكاذبة لنا إلا سنتان اثنتان لا غير. والبقية تأتى! كذلك كنت قد لاحظت، فى ثمانينات القرن الماضى، ما يكتبه خليل عبد الكريم من مقالات فى جريدة "الأهالى" يدعو فيها إلى وجوب النأى بالدين عن ميدان السياسة والاقتصاد والاقتصار منه على جوانب العبادة والأخلاق حفاظا على

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير