تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أغلبهم لم يكونوا يوما أميين يعتمدون فى آدابهم ومعارفهم على الأذن والحفظ والمناقلة الشفوية بالمعنى الذى نقصده حين نتكلم عن العرب الأصلاء أيام الجاهلية؟ وحتى بالنسبة للعرب الأصلاء، أيظن أنهم ظلوا لا يتطورون حتى بعد أن أصبحوا سادة الدنيا فى العلوم والآداب؟ لقد كان الأوربيون إلى قرون قليلة خلت متخلفين ومتوحشين بطريقة مزرية، وكان العرب الذين لا يعجبون مؤلفنا الآن يسخرون منهم ومن جهلهم وخشونتهم. فهل نظل ننعتهم بأنهم متوحشون أميون إلى أبد الآبدين؟ ثم ما العيب فى الاعتماد على الأذن فيما ينبغى الاحتكام إلى الأذن فيه؟ إن التنوين، بلا شك، يضفى على الكلمة موسيقية يجعلها أجمل وأقدر على غزو القلوب، فهل نتخلى بهذه البساطة عن التنوين، وبخاصة أن آذاننا، كما تقول، قد ألفته؟ إن اقتراحك هذا يذكرنى بالتركى الذى اشترى بعض القُلَل ووضها أمام بيته، ثم جلس إليها، وكلما مر أحد السابلة من خلق الله الغَلابَى من أمثالى ومدّ يده إلى واحدة منها ليبلّ ريقه الناشف أسرع التركى فنهره قائلا، وهو يشير إلى قُلَّة أخرى بعيدة: "اترك هذه، واشرب من تلك! ". طيب! ثلاثة أيمان بالله العظيم يا أستاذ شوباشى ما أنا شارب إلا من القُلّة التى أُحِبّ، والذى تريد أن تعمله، اعمله!

إن المعيار الذى تتخذه هنا هو أن تؤدى الكلمة المعنى، والسلام. لكن من قال إن هذا معيار سليم فى كل الأحوال؟ ترى لماذا جئتَ لابسًا بدلةً ورباط رقبة وكنت على سِنْجَة عشرة يوم تسجيل الحلقة التلفازية الخاصة بمناقشة كتابك؟ لقد كان يكفى أن تلبس مثلى قميصا وسروالا. لا، بل إنه ليكفى أن يضع الواحد منا خرقة على جسمه إذا أراد الخروج للشارع! لا، بل إنه ليس للخرقة أي داع فى أوقات الحر، ولْيخرج الواحد منا كما ولدته أمه، على الأقل لنوفر العملة الصعبة التى نشترى بها آلات الغزل والنسيج أو التى نشترى بها الملابس الجاهزة حتى لو كانت من المنتوجات الصينية التى أسعارها فى متناول أى كحيان عدمان، وأنت سيد العارفين بأن بلادنا فى حاجة إلى كل دولار نُدبِّقه كى يهبش الملايينَ أىُّ لص من خريجى مدرسة " خذ الفلوس واجْرِ" من شاكلة المرأة الحديدية! (المرأة الحديدية من الطبعة المصرية لا الإنجليزية من أمثال مسز ثاتشر، التى ظُفْرُها برقبة ألف ممن يُسَمَّوْن بـ"الرجال" من العالم السَّكّة الذى يدعونه: "العالم الثالث" رغم كراهيتى الشديدة لها ولعنجهيتها ولوقوفها ضد قضايانا). ومرة أخرى أقول: لماذا يا ترى نحرص فى الحفلات والمناسبات السعيدة على تزيين المائدة عندما نجلس إلى الطعام، وعلى إضاءة الشموع الخافتة بدلا من الثريا التى اشتريناها بالغالى ودفعنا فيها شيئًا وشويّات، وعلى تشغيل موسيقى هادئة من النوع الكلاسيك التى يغرم بها من لا يعجبهم من المثقفين "نِصْف لبّة" موسيقانا من عزف خالد الذكر المعلم حسب الله حتى يقال عنهم إن ذوقهم أوربى، ويقوم على تقديم الطعام لنا جرسونٌ أنيق يرتدى بابيونة فى رقبته وينحنى فى كل مرة بأدب يفقع المرارة بل يفلق الحجر، واضعا طَبَقًا وراء طبق وعلى راحته تماما (ولماذا العجلة؟ هل سيفوته ا لقطار؟)، ونحن نبتسم له رغم أن عصافير بطوننا لا تكفّ عن الزقزقة وتود لو نَزَلَتْ على الطعام "حَتَتَك بَتَتَك" غير مبالية بهذا الذى يسمونه: "الإتيكيت"، لعنة الله عليه؟ ألم يكن يكفى أن يُدْلَق الطعام على الأرض دَلْقًا، وعلى كل من يريد أن يأكل أن ينبطح على بطنه ويلعقه كما تفعل القطط مثلا؟ ألم نكن سنشبع؟ أم كان الطعام سيقول: لا؟ ولماذا كذلك الرقص والغناء؟ ألا يكفى أننا نمشى ونتكلم ونصيح؟ ألا بد من الحركات والأصوات الموقَّعة؟ ولماذا كل هذه القواعد الكثيرة المعقدة التى يتحكم بها أهل الفيفا فى لعبة الكرة؟ لقد كان الناس قديما يلعبونها كيفما اتفق فيركل الواحد منهم الكرة أو خُصْيَتَىْ غريمه: لا يهم! كُلّه ماشٍ! وكان الذى ينكسر من اللاعبين أو حتى يموت يروح فى ستين ألف داهية دون أن يسأل عنه أحد أو يدفع له دية، فما الذى جعل خبراء الفيفا يحشرون أنوفهم فى أمور الكرة ويحرمون الناس من الحرية التى كانوا يتمتعون بها فى ممارستها؟ إنها الحضارة، كما تعرف، والرغبة عند أهل الذوق الراقى فى المتعة يا أستاذ. ولكنك تتجاهل ذلك عند مناقشتك لأمور النحو العربى! وأرجو ألا يقول لى أحد:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير