تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وهل أوربا غير متحضرة، وليس عندها إعراب؟ فجوابى جاهز، وهو أن هذه مسألة أذواق، وهم لهم ذوقهم، ونحن لنا ذوقنا، مثلما لهم نبيهم، ولنا نبينا، وكل من له نبىّ يصلى عليه! وفوق ذلك فالإعراب فى لغتنا يعطيها مرونة عجيبة فى بناء الجملة لا تتوفر فى أية لغة أخرى، فترانا نقدّم ونؤخّر، ونحذف ونَذْكُر حسبما تقتضيه البلاغة. كما أن التشكيل جزء أصيل فى الإملاء العربى، على الأقل لإزالة الالتباس كما لا بد أن يكون القراء قد لاحظوا ذلك فيما أكتب، وإن كنت أسرف قليلا فى هذا السبيل. أما اللغات الأوربية التى ترى أنها هى المثال الذى ينبغى أن نحتذيه فهى لغات متيبّسة الحركة كالذى فى رقبته خشونة أو غضروف، فهو لا يستطيع أن يتلفت براحته، بل عليه أن يظل ناظرا قدامه، أو كالقطار الذى لا يمكنه إلا أن يجرى فوق القضبان وإلى الأمام فقط آخذا كل شىء فى وجهه، لكن ليس على طريقة قطار كَفْر الدوّار الذى دخل فى البيوت والدكاكين وحصد من الأرواح ما لا أعرف عدده الآن. أتذكرونه؟ والله إنى لحزينٌ وآخذٌ على خاطرى منك كثيرا يا أستاذ شوباشى، فأنت ابن الرجل الذى أمتعنا، ونحن شبانٌ، بأسلوبه العذب الذى يغزو القلوب غزوا سواء فى ذلك مؤلفاته أو مترجماته. لا عليكِ يا لغتنا العبقرية الفاتنة! غدًا، حين نزيح غُمّةَ التخلف والكسل عن كواهلنا وسوادَ خزيه عن وجوهنا، يأتيكِ من يقدّر جمالك وأناقتك وسحرك ودلالك وأصالة البيت الذى أنت منه ويدفع فيك المهر الذى تستحقين! صحيح: لم يجدوا فى الورد عيبا فقالوا له: يا أحمر الخدين!

ونأتى إلى اقتراح كاتبنا بحذف التأنيث. وأذكر أن د. عبد المنعم تليمة قد دافع، فى حلقة التلفاز التى تكررت الإشارة إليها آنفا، عن هذا الرأى قائلا إننا الآن فى عصر يهتم بحقوق المرأة ولا يقبل أبدا أية تفرقة بينها وبين الرجل. وعلى هذا فلا بد أن تُعَامَل كالرجل سواءً بسواءٍ فى الضمائر والأسماء والصفات. وقد رددتُ على ذلك بالقول بأن الله جعل كل الأحياء ذكرا وأنثى، ويوم أن يتوصل العلماء إلى جعل البشر جنسًا واحدًا لا هو ذكر ولا هو أنثى، فعند ذلك سوف تختفى تلقائيا ظاهرة التأنيث. أما قبل ذلك فلا أدرى سببا للمناداة بإلغائها. ثم أضفتُ أن حقوق المرأة وحرصها على التميزعن الرجل وعدم الخضوع له يقتضى منا أن نُفْرِدها بضمائرَ وصيغٍ اسميةٍ ووصفيةٍ خاصّةٍ بها، وإلا كانت مجرد ظل لِسِى السيّد فنعبّرعنها بما نستعمله له دون تفرقة. ثم إن التأنيث موجود مثلا فى اللغة الفرنسية التى يتقنها الكاتب، لا فى الضمائر والأسماء والصفات فقط، بل فى أدوات التعريف والتنكير أيضا، على خلاف ما عندنا، إذ لا تعرف لغتنا إلا أداة تعريف واحدة للمذكر والمؤنث إفرادًا وتثنيةً وجمعًا، أما التنكير فليس له لدينا أداة. كما أن لتأنيث الأسماء والصفات فى لغة فولتير قواعد متعددة حسبما هو معروف. لكن البعض قد يعترض بأن المنطق كان يقتضى اتفاق العدد عندنا فى التذكير والتأنيث مع الاسم المعدود فنقول: "تسعة نساء، وتسع رجال"، لا العكس. ولا أحب أن أضيع وقتى ووقت القارئ ووقت المعترض فى مناقشة مثل هذا الاعتراض، بل أختصر الكلام اختصارا وأقول: هذا الذى كان، وهذا الذى حصل، ويستوى من حيث الصعوبة أو السهولة أن نخالف بين العدد والمعدود أو نوافق. المهم أن هناك قاعدة تحكم هذا، وأن الأمر ليس فوضى. وليس من المعقول أن نأتى للغتنا كل فترة فنعبث بها حتى تصير كالخرقة الممزقة. وبالمناسبة فليست هناك لغة فى الأرض أهلُها راضون عنها تمام الرضا حتى ولا الإنجليزية، التى تعانى من عيوب كثيرة جدا على عكس ما يوحى به كلام الأستاذ الكاتب. وكما أكرر دائما، فالعبرة بالتكرار والتعود، وكل صعبٍ لا بد أن يَذِلّ ويُسْلِس قيادَه لمن يَرُوضه بالاهتمام والجِدّ والحرص على الإتقان. وقد أُثيرت مسألة إطلاق كلمة "أستاذ" بصغتها المذكَّرة هذه على بعض دكتورات الجامعة، ودافع الدكتور تليمة عن هذا الصنيع. لكنى أرى أنه مجرد تقليد ممسوخ للغة جون بول، التى لا يصح اتخاذها هى أو غيرها مثالا أعلى للغتنا الدقيقة الأنيقة المصفاة من كل أثر للخشونة الموجودة فى الإنجليزية أو غير الإنجليزية. إن هذا يذكّرنى بما صنعه بنو إسرائيل فور نجاتهم من بطش فرعون، الذى رَأَوْه بأم أعينهم يغرق مع جنوده ومَلَئه لكنهم لم يتعظوا، إذ ما إن

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير