تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وبهذا نكون قد انتهينا من مناقشة فكرة المؤلف الرئيسية بتفصيلاتها المختلفة، وتبقى بعض النقاط الفرعية التى تحتاج إلى شىء من التريث إزاءها. ومن ذلك قوله إن اللغة العربية "هى اللغة الوحيدة فى العالم التى لم تتغير قواعدها الأساسية منذ 1500 سنة كاملة. قد يرى البعض فى ذلك رسوخًا واستمراريةً ودليلاً على رصانة اللغة، لكنى أرى فيه جمودًا وتحجرًا ينعكس سلبيًّا على العقل العربى" (ص 13). وهذا كلام لا نوافق المؤلف عليه بعدما بيّنّا كيف أن كل ما قاله عن عيوب هذه اللغة هو مجرد دعاوَى قائمةٍ على الشبهات المتعجلة، ولا أزيد. والواقع أن من الصعب الاقتناع بأن طول عمر العربية دليل على التحجر، وبخاصة بعدما رأينا أنها لم تكفّ يوما عن التطور كما وضّحْتُ فى هذا البحث، وأن التأليف بها فى شتى المجالات والعلوم والفنون مستمر على الدوام. إن طول عمر لغة القرآن إنما هو برهان جلىّ على أصالتها التى لم تستطع لغة أخرى أن تجاريها فيها. ولقد دفعت هذه الأصالة العجيبة كبار الأدباء العرب النصارى المتمكنين من لغتهم والغيورين عليها والعارفين بفضلها وعبقريتها إلى الإشادة بذلك السر الذى حمى تلك اللغة من الاندثار أو التغير الجذرى الذى من شأنه أن يقيم حاجزا صَلْدا ما بين ماضيها وحاضرها أو التحلل وإفساح المجال للهجاتها المختلفة مثلما حدث لغيرها من اللغات، ولم يمنعهم عدم إيمانهم بدين محمد من القول بأن ذلك السر هو القرآن. ومن هؤلاء سليمان البستانى مترجم الإلياذة الذى كان يعرف عددا من اللغات الأجنبية، ومنها اليونانية القديمة (إلياذة هوميروس/ دار إحياء التراث العربى/ بيروت/ 1/ 113ــ 115)، وجرجى زيدان (مختارات جرجى زيدان/ مطبعة الهلال/ القاهرة/ 1937/ 187ــ 189). وإلى القرآن الكريم أيضا تعزو مىّ زيادة النصرانيةُ اللبنانيةُ المتمصِّرةُ فصاحةَ المسلمين العربِ واستقامةَ لفظهم وجمالَ نطقهم وفخامةَ أسلوب الكاتبين منهم (باحثة البادية وعائشة التيمورية/ كتاب الهلال/ يونيه 1999م/ 60). وبالمناسبة لقد أحدث الأتراك فى لغتهم تغييرات كثيرة وعنيفة عامدين متعمدين كى يبتعدوا عن مدار العربية ظنا منهم أن ذلك هو المفتاح الذى سيلحقهم بأوربا فى التفوق والتحضر والتقدم الاقتصادى والعسكرى، بَيْدَ أن تركيا ما زالت دولة من دول العالم الثالث، وتعانى من كل ما تعانى منه دول ذلك العالم، ولم يشفع لها ما فعلته بلغتها أو بدينها فى هذا السبيل بشىء! بل إن أوربا لا تزال تقف منها موقف المتربص الكاره، وتأبى عليها أن تلتحق بالاتحاد الأوربى بسبب أنها دولة مسلمة! بعد كل الذى فعلته؟ إى وربى بعد كل الذى فعلته! فما رأى مؤلفنا الفاضل؟ وعلى الناحية الأخرى هاهى ذى دول النمور الآسيوية قد أحرزت فى الفترة الأخيرة نهضة اقتصادية عظيمة من دون أن تحدث فى لغاتها أو دينها هذا الذى فعلته تركيا الكمالية! فما رأى مؤلفنا الفاضل فى هذه أيضا؟ كذلك يقول سيادته إن "ظاهرة رفض المساس باللغة العربية هى جزء من ظاهرة أعم أصبحت مسيطرة على المجتمعات العربية، فقد استشرى منذ الثلث الأخير من القرن العشرين تيار جارف يعتبر كل بدعة مكروهة، ويرى فى أى فكر حرّ متطور محاولةً شيطانية لتقليد الغرب ونَبْذًا للدين والثقافة العربية الأصيلة" (ص/ 58). ويؤسفنى أننى لا أستطيع أن أتفق معه فى هذا التعليل، وإلا فأين مكان والده والشدياق وبطرس وسليمان البستانى وناصيف وإبراهيم اليازجى وجرجى زيدان وخليل مطران وابن باديس وشكيب أرسلان ومحمد كرد على والبشير الإبراهيمى والطاهر والفاضل ابنى عاشور والرافعى والعقاد وطه حسين والزيات وعثمان أمين وحسن الشريف ومحمد محمد حسين ومحمود شاكر وبنت الشاطئ وشوقى ضيف ومحمد شوقى أمين ومحمد خليفة التونسى وعلى الطنطاوى ومحمد الغزالى وحسين نصار ونجيب محفوظ وعبد الصبور شاهين وفاروق شوشة وغيرهم من الكتاب والأدباء العرب الفطاحل من هذه النزعة، وهم قد جاؤوا قبل ظهورها بزمن طويل، ولهم رؤية للدين وللحياة تختلف عن رؤية أصحابها؟ وأين مكان واحد مثلى لا تربطه أية رابطة بالجماعات الدينية التى يرمى المؤلف بكلامه ناحيتها، وأرى أنهم كثيرا ما يسيئون لدين محمد عليه السلام، وإن ظنوا بحسن نية أنهم يحسنون صنعا، إذ هم يحبون هذا الدين العظيم حُبًّا جمًّا لكنهم قد يخطئون السبيل

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير