تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لخدمته؟ بل أين منهم أيضا مكان أحمد لطفى السيد، الذى كان، رغم كل ما هو معروف عنه من أفكار لا تعجب كثيرا منا، يحمل على العامية حملة شعواء واسِمًا إياها بأنها ممسوخة الألفاظ، منحطة التراكيب، ملحونة الإعراب؟ (المنتخبات/ طبعة المقتطف/ 1945م/ 123). ثم من قال إن الجماعات الدينية المشار إليها تهتم أصلا بمسألة كهذه؟ إن كل ما تهتم به لا يكاد يخرج عن قضية الحلال والحرام بالمعنى الضيق لهذين المفهومين، أما اللغة فخارج دائرة اهتمام أفرادها. إن المسألة فى وضعها الصحيح هى أن سيادته يتبنى قضية خاسرة، فضلا على أنه لم يستطع أن يربحنا، ولو بالباطل، إلى صفّه. لكنه للأسف لا يريد أن يعترف بهذا، فما العمل؟ نحن مقتنعون مثله، بل أشد منه، أننا متخلفون، وأن الغرب أقوى منا، وأن لديه أشياء كثيرة فى العلوم والصناعات والفنون والنظام والتخطيط والتنسيق والتعاون والجَلَد على العمل والصبر على مشقات الحياة ... إلخ لا بد لنا من الاستفادة منها والتتلمذ عليه فيها، وبخاصة أن كثيرا من القيم التى عنده هى مما يدعو إليه الإسلام أيضا، مع تفوقها فى الإسلام وخلوها من الشوائب والأوضار التى تمازجها لديه. لكن هناك شيئين لا نفكر فى التخلى عنهما ولا فى مطاوعة الغرب فى التفريط فيهما أبدا: اللغة والدين! فإن وافقَنا الكاتبُ على هذا فنحن أحباب، وإلا فهو فى طريق، ونحن فى طريق، ومعنا والده أو بالأحرى روح والده ترفرف علينا وتشجعنا على مخالفة ابنه وتنكر عليه هذا الموقف تمام الإنكار!

وزرايةً من الكاتب أيضا على اللغة العربية يزعم أن عشق العرب الأول يتمثل فى التلاعب بالكلمات. يريد أن يقول إنهم لم يكونوا ينظرون إلى اللغة على أنها وسيلة للتفاهم بل للعبث وإضاعة الوقت جريا وراء سجعة أو جناس أو طباق، أو لتحبير رسائل تقرأ فى ذات الوقت من اليمين للشمال وبالعكس ... إلى غير ذلك من ألوان الزينات الشكلية التى يؤكد أنها لا تفيد فى شىء. وهو يشير فى هذا المقام إلى ما كان يفعله واصل بن عطاء، الخطيب والمفكر المعتزلى المشهور الذى كان فى لسانه لثغة، فكان يتجنبها فى خُطَبه مستبدلا كل كلمة فيها "راء" بكلمة أخرى ترادفها تخلو من هذا الحرف (ص 84ــ 85) رغم أن هذا المثال إنما يدل على عكس ما يريد الكاتب، إذ لا أظن لغةً أخرى تستطيع أن توفر مثل هذه الإمكانية العجيبة لأحد من أبنائها بأى حال! كذلك فإننى، وإن كنت فى ذوقى الكتابى كأبناء عصرى من الكتاب والأدباء ممن لا يتبعون فى أساليبهم سبيل المحسّنين المزخرفين، لا أستطيع أن أنكر أن هذه التزيينات إنما تدل رغم ذلك على مدى ما تتمتع به هذه اللغة العجيبة من إمكانات صوتية ومعنوية، وعلى ما كان هؤلاء الأدباء يملكونه من موهبة أسلوبية وعقلية تتيح لهم هذه السيطرة الرائعة على لغة أمتهم. صحيح أن بعضهم كانت تستغرقه النزعة الشكلية إلى حد مبالغ فيه بحيث لا يقدم لنا ما يكتبه شيئًا فكريًّا ذا قيمة كبيرة، بيد أن كثيرًا جدًّا أيضًا من النصوص التى تزخرفها البديعيات كانت تحتوى فى ذات الوقت على مضمون عقلى وأدبى رائع، ومنها "رسالة الغفران" لأبى العلاء المعرِّىّ، ومقامات الهمدانى والحريرى التى يرى فيها نقادنا المحدثون حتى من اليساريين أنفسهم الأساسَ الأولَ للقصة القصيرة العربية، وكذلك "ألف ليلة وليلة" التى بهرت المستشرقين وكتبوا عنها البحوث المطوَّلة ورَأَوْا فيها إبداعا أدبيا قل أن يوجد له ضَرِيب! ومع ذلك كله فإن العرب لم يكونوا كلهم من عشاق التلاعب بالكلمات، وإلا فهل كان عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفع أو سهل بن هارون أو الجاحظ أو ابن سلاّم أو ابن قتيبة أو أبو الفرج الأصفهانى أو ابن المعتز أو أبو حيان التوحيدى أو ابن جنى أو القالى أو القاضى الجرجانى أو عبد القاهر أو أسامة بن منقذ أو ابن حزم أو الغزالى أو الفارابى أو ابن سينا أو ابن رشد أو ابن مسكويه أو الطبرى أو القرطبى أو الزمخشرى أو القُشَيْرى أو السيوطى أو ابن خَلْدون أو جابر بن حيان أو ابن الهيثم أو أبو بكر الرازى وغيرهم، وهم بالألوف، كانوا يتلاعبون بالكلمات؟ لقد كان هذا الاتجاه يا أ. شوباشى محصورا فى بعض العصور فحسب، وحتى فى هذه العصور لم يكن كل الكتاب يجرون عليه فى مؤلفاتهم، ولا كان الذين يجرون عليه يتّبعونه فى كل ما يؤلفون. ولست أظن أن مثل هذه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير