تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وتسلياتهم التافهة، وكما كان أجدادهم يهتمون بالعلم والأدب وشؤون الفكر والثقافة أيام مجدهم الحضارى!

ومن آراء المؤلف الغريبة أيضا التى لا أدرى من أين عنّت له قوله إن عندنا نحن العرب منذ قرون طوال شيزوفرانيا لغوية، إذ عندما نترك أنفسنا على سجيتها فإننا نستعمل اللهجة العامية، أما عندما نكتب أو نقرأ أو نستمع إلى نشرات الأخبار فإننا نتحول إلى اللغة الفصحى (ص 125). وهو رأىٌ فطيرٌ لا ينهض على أى أساس، فنحن لا تتغير شخصيتنا عندما ننتقل من مستوى لغوى إلى مستوى لغوى آخر حسب السياق الذى نجد أنفسنا فيه، وإلا لكان البشر جميعا مصابين بألوان وألوان من الشيزوفرانيا لأنهم دائمو التنقل من حالة لأخرى فى كل وقت من النهار والليل: ففى البيت نرتدى المنامة والشبشب، أما عندما نخرج إلى الشارع فنلبس القميص والسراويل، وفى الحفلات والمناسبات الرسمية نأخذ كامل زينتنا ونلبس البدلة ورباط الرقبة والحذاء والجورب ... إلخ. ونحن حين نكون فى الشارع فى عجلة من أمرنا فإننا نسكت صراخ بطوننا بشطيرة كيفما اتفق، على حين أننا لو كنا بالبيت فلن نرضى من زوجاتنا بأقل من الطبيخ واللحم والسَّلَطات والجبن والفواكه ... وهلم جرًّا. كذلك فالواحد منا يكون خارج البيت مجاملا مع الآخرين، بينما يترك نفسه على طبيعته مع أهل بيته فيصرخ وينفعل، وقد يكون وَعْرا شديد الوعورة ... وهكذا، وهكذا. ترى أيخطر فى بال أحدنا أن يسمّى شيئًا من هذا شيزوفرانيا؟ وعلى كل حال فهذا الانتقالُ من مستوى لغوى إلى مستوى لغوى آخر موجودٌ فى كل اللغات، وليس مقصورا على لغة القرآن، إذ الحياة فى كل مجالاتها ومظاهرها مرتبةٌ درجاتٍ بعضُها فوق بعض. والفصحى، كما سلف القول، تشبه ارتداء الملابس الرسمية كاملة، أما عامية المثقفين فتشبه القميص والسراويل، وأما عامية غير المتعلمين فتشبه مباذل العمل، وتبقى عامية الدهماء والغوغاء، وهى أشبه ما تكون بملابس الكناسين وكاسحى المجارى. ولست أقصد بهذا تحقيرا لأى أحد أو لأية مهنة. إنما هو مَثَلٌ ضَرَبْتُه لأبين للقراء الأفاضل أن المؤلف لا يقول كلاما سليما حين يتهم العرب من دون سائر خلق الله بأنهم مصابون بداء "الشيزوفرانيا"! وليس الفرق بين اللغة الفصحى واللهجة العامية كالفرق بين لغتين مختلفتين كما يزعم خطأً، وإلا فكيف يفهم العامىُّ المغرقُ فى الأميةِ والجهلِ كلامَ الخطيب يوم الجمعة والآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأقوال الصحابة وأبيات الشعر التى تتضمنها الخطبة عادة؟ وقل مثل ذلك فى نشرات الأخبار والتحليلات السياسية والكلمات التى تلقى فى الندوات العامة. كذلك كيف يفسر الكاتب مقدرة ابنتى الصغيرة التى لا تزال فى المرحلة الابتدائية على فهم القصص والمجلات والكتب التى أشتريها لها لتقرأها وتستمتع بها، حتى إنها لتفاجئنى بترديد بعض عباراتها الفصحى كما فعلت الليلةَ مثلا حين كنت أهدهدها وهى بجوارى تقرأ فى إحدى مجلات "ميكى"، إذ انطلق لسانهاقائلةً: "لماذا تُرَبِّتُ على كَتِفى يا أبى؟ ": هكذا بالنص كما شكَّلتُ الجملة، مما جعلنى أهتف بصوت مسموع وأنا أقهقه: "تعال يا أستاذ شوباشى، اسمع! "، وهو ما دفعها إلى السؤال باستغراب: "من الأستاذ الشوباشى هذا يا بابا؟ "، فضحكتْ زوجتى، التى تعرف الأمر وتتابعه معى أَوَّلاً بأَوَّل… والطريف أن هذه الصغيرة نفسها كثيرا ما تسألنى عن بعض الكلمات والعبارات العامية التى لا تدرك معناها فيما أحب الاستماع إليه من أغانٍ مثل أغنية "غُلُبْت أصالح فى روحى" لكوكب الشرق، التى لم تفهم منها عبارة "صعبان علىّ اللى قاسيته، فى الحب من طول الهجران"؟ ثم كيف يفسر سيادته استطاعتى أثناء طفولتى الأولى فى الكُتّاب فهم قصص الأنبياء التى كانت تقع فى يدى بين الحين والحين فى خمسينات القرن الماضى حين كانت القرية المصرية غارقة فى ظلمات الأمية إلى حد كبير، وكل ما كان فى جَعْبتنا من الفكر والثقافة فى ذلك الحين قواعدُ الإملاء وعملياتُ الحساب الأولية وحفظُ بعض السُوَر القرآنية؟ وماذا يقول فى القراء الذين لم يحصلوا على أية شهادة علمية، لكنهم يحبون القراءة ويستطيعون أن يفهموا ويتلذذوا بمطالعة الكتب الراقية التى ألفها فطاحل الكتاب والأدباء كالعقاد والمازنى وطه حسين وأحمد أمين وفريد أبو حديد مثلا؟ وكيف يا ترى يفهم هذا النوعُ من

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير