على أن قول ابن راهويه، رحمه الله، لا يعني رد كل ما جاء في فضل معاوية، رضي الله عنه، لأنه قيد كلامه بـ: "لم يصح"، وابن راهويه، رحمه الله، من المتقدمين الذي يدخلون الحسن في قسم الضعيف، فالقسمة عندهم ثنائية: صحيح وضعيف، لا ثلاثية كما هو حال المتأخرين: صحيح وضعيف و حسن هو الواسطة بينهما، ولذا نجد أحمد، رحمه الله، وهو من طبقة ابن راهويه، يأخذ بالضعيف، الذي لم يشتد ضعفه، مقدما إياه على القياس، فمقصوده بالضعيف هنا ليس الضعيف عند المتأخرين، الذي لا يصلح للاحتجاج، وإنما مقصوده الضعيف المنجبر، الذي يتقوى بغيره فيرتقي لمرتبة: "الحسن لغيره" التي تصلح للاحتجاج، وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وأول من عرف أنه قسم الحديث ثلاثة أقسام صحيح وحسن وضعيف هو أبو عيسى الترمذى فى جامعه والحسن عنده ما تعددت طرقه ولم يكن فى رواته متهم وليس بشاذ فهذا الحديث وأمثاله يسميه أحمد ضعيفا ويحتج به ولهذا مثل أحمد الحديث الضعيف الذى يحتج به بحديث عمرو بن شعيب وحديث إبراهيم الهجري ونحوهما وهذا مبسوط فى موضعه"
"مجموع الفتاوى"، (1/ 253)، وانظر: "قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة"، ص119، 120.
وتعريف الحسن عند المتأخرين يشهد لهذا القول، إذ الحسن مع كونه محتجا به، إلا إذا عورض بما هو أصح منه، إلا أنه يوصف بأن فيه نوع ضعف، لأن راويه قد نزل في ضبطه وحفظه عن منزلة راوي الصحيح، فهو أخف منه ضبطا، ولكنه في نفس الوقت مساو له في العدالة، وخفة ضبطه لم تصل لدرجة سوء الحفظ أو الغلط الفاحش الذي ينزل بالراوي إلى مرتبة الضعف سواء أكان ضعفا منجبرا أم غير منجبر.
فهو ضعيف بالنسبة للصحيح لا لكونه ضعيفا في ذاته.
فالأحاديث التي أوردها الذهبي، رحمه الله، في ترجمة معاوية، رضي الله عنه، إن لم تصل لحد الحسن المقبول بأفرادها، فإنها تصل إلى حد الحسن لغيره بمجموعها، وبذا يمكن الجمع بين القولين.
وتحرير مصطلحات المتقدمين والمتأخرين والتمييز بينها، مما يفيد، أيما فائدة، في هذا الباب والله أعلم.
وقد جاء عن جمع من الصحابة والتابعين، آثار فيها مناقب لمعاوية، رضي الله عنه، تعضد الأحاديث المرفوعة في هذا الشأن، فمن ذلك:
ما نقله الحافظ ابن كثير في (البداية والنهاية 8: 133) عن الليث بن سعد (وهو إمام مصر وعالمها ورئيسها المتوفى سنة 175) قال: حدثنا بكير (وهو ابن عبد الله بن الأشج المدني ثم المصري المتوفى سنة 127هـ قال عن الإمام النسائي: ثقة ثبت) عن بسر بن سعيد المدني (المتوفى سنة 100هـ قال عنه ابن معين: ثقة، وقال عنه الليث بن سعد: كان من العباد المنقطعين أهل الزهد في الدنيا والورع) أن سعد بن أبي وقاص (أحد العشرة المبشرين بالجنة) قال: (ما رأيت أحداً بعد عثمان أقضى بحق من صاحب هذا الباب) يعني معاوية.
وروى ابن كثير أيضاً (8:153) عن عبد الرزاق بن همام الصنعاني (أحد الأئمة الأعلام الحفاظ)، عن معمر بن راشد أبي عروة البصري ثم اليمني (وكان أحد الأعلام)، عن همام بن بن منبه الصنعاني (وكان ثقة) قال: سمعت ابن عباس يقول: " ما رأيت رجلاً أخلق بالملك من معاوية ".
يقول الشيخ محب الدين الخطيب، رحمه الله، معلقا:
وهل يكون الرجل أخلق الناس بالملك إلا أن يكون عادلاً حكيماً حليما، يحسن الدفاع عن ملكه، ويستعين الله في نشر دعوة الله في الممالك الأخرى، ويقوم بالأمانة في الأمة التي ائتمنه الله عليها؟
من تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص79، طبعة مكتبة السنة.
وفي رواية عبد الرزاق، رحمه الله، لأثر ابن عباس، رضي الله عنهما، في مصنفه الشهير، دلالة لا تخفى، إذ عبد الرزاق ممن اتهم بالانحراف عن معاوية، رضي الله عنه، ولكنه استعمل الإنصاف والعدل في هذه الرواية فروى ما صح عنده وإن لم يوافق مذهبه، إن صح عنه ذلك، وأهل السنة، كما يقول عبد الرحمن بن مهدي، رحمه الله، يكتبون ما لهم وما عليهم، خلاف أهل البدعة الذين يكتبون ما لهم فقط، ويكتمون ما عليهم، وما ابتدع مبتدع بدعة إلا نزع حب الحديث والأثر من قلبه لأنه يفضح بدعته ويهتك سترها.
ومن ذلك أيضا:
¥