وفي هاتين الروايتين، أيضا، دلالة ذات مغزى، إذ هما من قول رجلين من أهل الكوفة، معقل أنصار أمير المؤمنين علي، رضي الله عنه، ومع ذلك أنصف الرجلان معاوية، رضي الله عنه، وهذا من تمام فضلهما.
وما رواه ابن بطة من طريقة – حدثنا محمد بن عمرو بن جبلة، حدثنا محمد بن مروان، عن يونس، عن قتادة قال: "لو أصبحتم في مثل عمل معاوية لقال أكثركم: هذا المهدي". وروى ابن بطة بإسناده الثابت من وجهين عن الأعمش عن مجاهد قال: "لو أدركتم معاوية لقلتم هذا المهدي".
من تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص163.
وذكر خليفة بن خياط، رحمه الله، في تاريخه: أن عمر، رضي الله عنه، جمع الشام كلها لمعاوية، وأقره عثمان.
ويعلق الذهبي، رحمه الله، فيقول:
"قلت: حسبك بمن يؤمره عمر، ثم عثمان على إقليم - وهو ثغر - فيضبطه، ويقوم به أتم قيام، ويرضي الناس بسخائه وحلمه، وإن كان بعضهم تألم مرة منه، وكذلك فليكن الملك.
وإن كان غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا منه بكثير وأفضل وأصلح، فهذا الرجل ساد، وساس العالم بكمال عقله، وفرط حلمه، وسعة نفسه، وقوة دهائه، ورأيه.
وله هنات وأمور، والله الموعد.
وكان محببا إلى رعيته.
عمل نيابة الشام عشرين سنة، والخلافة عشرين سنة، ولم يهجه أحد في دولته، بل دانت له الأمم، وحكم على العرب والعجم، وكان ملكه على الحرمين، ومصر، والشام، والعراق، وخراسان، وفارس، والجزيرة، واليمن، والمغرب، وغير ذلك". اهـ
ولم يدع أحد له عصمة، وإنما هو رجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ممن أمرنا بالترضي عنهم والاستغفار لهم، ولمعاوية، رضي الله عنه، من حسن السياسة وتدبير الملك ما لا ينكره إلا مكابر، وله من الحسنات ما يغمر زلاته.
وكان عمر، رضي الله عنه، وهو من هو في معرفة أقدار الرجال يقول: تعجبون من دهاء هرقل وكسرى وتدعون معاوية؟!!.
وكان معاوية، رضي الله عنه، ممن يقر بفضل أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب، رضي الله عنه، فقد روى يحيى بن سليمان الجعفي من طريق يعلى بن عبيد، عن أبيه، قال: جاء أبو مسلم الخولاني وأناس إلى معاوية، وقالوا: أنت تنازع عليا أم أنت مثله؟ فقال: لا والله، إني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر مني، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه، والطالب بدمه، فائتوه، فقولوا له، فليدفع إلي قتلة عثمان، وأسلم له.
ولما استغل ملك الروم قتال صفين فاقترب من حدود المسلمين في جموع عظيمة، أرسل إليه معاوية يتوعده قائلا: "والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك، لأصطلحن أنا وابن عمي عليك ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت"، فخاف ملك الروم وانكف (البداية والنهاية 8: 119).
من تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص162.
وروى مجالد: عن الشعبي، عن الحارث، عن علي، رضي الله عنه، قال: لا تكرهوا إمرة معاوية، فلو قد فقدتموه لرأيتم الرؤوس تندر عن كواهلها.
وكان علي، رضي الله عنه، يقول: (قتلاي وقتلى معاوية في الجنة).
فهذه، شهادات، من عدد من الصحابة والتابعين، لمعاوية، رضي الله عنه، تكفي واحدة منها لتعديل راو من الرواة، لأنها صادرة من أئمة معتبرين في الجرح والتعديل، فمجموعها يحدث في النفس علما ضروريا بعدالة معاوية، رضي الله عنه، ولو كان المعدل واحدا من أولئك، لكفت شهادته، لا سيما، والراجح من أقوال أهل العلم أن تعديل الراوي يكفي فيه شهادة معدل واحد، كما أشار إلى ذلك الحافظ، رحمه الله، بقوله:
"والفرق بينهما، أي بين تزكية الراوي والشهادة عند الحاكم، أن التزكية تنزل منزلة الحكم فلا يشترط فيها العدد، والشهادة تقع من الشاهد عند الحاكم فافترقا".
"نزهة النظر"، ص142.
وإليه أشار الحافظ العراقي، رحمه الله، في ألفيته بقوله:
وصحح اكتفاؤهم بالواحد ******* جرحا وتعديلا خلاف الشاهد
أي: صحح اكتفاؤهم بحكم مجرح أو معدل واحد، خلاف الشهادة التي يشترط فيها شاهدان.
فالحاكم لا يلزم لقبول حكمه أن يوافقه حاكم آخر، لا سيما إن كان حاكما معتبرا، كمن ذكرنا من الصحابة والتابعين، فمن الأئمة بعدهم؟!!!.
¥