ومن أراد أن ينصف معاوية، رضي الله عنه، فلينظر لمن أتى بعده، لا لمن أتى قبله، كما قال حبر الأمة الفقيه الأريب: عبد الله بن عباس، رضي الله عنه، وأما من نظر إليه في مقابل من أتى قبله، فقد حمله ما لا يطيق، وادعى له ما لم يدعه لنفسه، فقد كان، رضي الله عنه، مقرا بفضلهم وسبقهم، وللشيخ محب الدين الخطيب، رحمه الله، تعليق لطيف على هذه المسألة لما سأله يوما من كان يحسن الظن برأيه في الرجال: ما تقول في معاوية، فأجاب قائلا: "ومن أنا حتى تسألني عن عظيم من عظماء هذه الأمة وصاحب من خيرة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم؟ إنه مصباح من مصابيح الإسلام، لكن هذا المصباح سطع إلى جانب أربع شموس ملأت الدنيا بأنوارها فغلبت أنوارها نوره".
من تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص79.
وصدق، رحمه الله، فأنى للمصباح أن يصمد لشموس خلافة النبوة الساطعة؟!!!
وموقف أهل السنة من أحداث الفتنة واضح لا يحتاج إلى مزيد تعليق، فهم يعتقدون بأن عليا، رضي الله عنه، كان أدنى الطائفتين للحق، في كل قتال خاضه، وأنه هو المجتهد المصيب في ذلك، وخصمه هو المجتهد المخطئ، فللأول أجران، وللثاني أجر واحد، مصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر)، ويترضون عن الطائفتين، ولسان مقالهم:
"رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ"، ويعتقدون أن القتال كان: قتال فتنة، فكان الأولى الإمساك عنه، كما أمسك: سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأبو بكرة وعمران بن حصين رضوان الله عليهم.
وأما طعن القوم في معاوية، رضي الله عنه، بحجة نوسعه في المأكل، وحديث: (لا أشبع الله بطنه)، وهو مروي عند أبي داود في السنن بسند صحيح، فعنه يجيب ابن كثير، رحمه الله، بقوله:
وقد انتفع معاوية بهذه الدعوة في دنياه وأخراه، أما في دنياه فإنه لما صار إلى الشام أميرا، كان يأكل في اليوم سبع مرات يجاء بقصعة فيها لحم كثير ويصل فيأكل منها، ويأكل في اليوم سبع أكلات بلحم، ومن الحلوى والفاكهة شيئا كثيرا ويقول والله ما أشبع وإنما أعيا.
وهذه نعمة ومعدة يرغب فيها كل الملوك.
وأما في الآخرة فقد أتبع مسلم هذا الحديث بالحديث الذي رواه البخاري وغيرهما من غير وجه عن جماعة من الصحابة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم إنما أنا بشر فأيما عبد سببته أو جلدته أو دعوت عليه وليس لذلك أهلا فاجعل ذلك كفارة وقربة تقربه بها عندك يوم القيامة ".
فركب مسلم من الحديث الاول وهذا الحديث فضيلة لمعاوية، ولم يورد له غير ذلك. اهـ
البداية والنهاية، (8/ 128)
فإذا كان الله، عز وجل، قد أنعم عليه بشهية مفتوحة، فأي ضير في ذلك؟!!، طالما لم يقصر في أمر دينه ودنياه، وسيرته شاهدة على ذلك، فلا يلزم من التوسع في الطيبات: الذم، وإنما يذم الإنسان إذا شغل بها عن أمر دينه، وقد عرف تاريخ المسلمين، أفاضل كثر، أثر عنهم التوسع في الطيبات:
فالحسن بن علي، والمغيرة بن شعبة، رضي الله عنهما، أثر عنهما التوسع في النكاح، حتى أحصن الله، عز وجل، بهما، جمعا غفيرا من نساء المسلمين.
وأبو يحيى، رابح البيع، صهيب الرومي، رضي الله عنه، أثر عنه التوسع في المأكل.
ومن القادة السياسيين والعسكريين:
الواثق بالله، العباسي، غفر الله له، مع تلبسه ببدعة خلق القرآن، كان خاتمة العصر الذهبي، لخلفاء بني العباس، الذين وصفهم الشيخ محمد الخضري، رحمه الله، بأنهم كانوا ممن يقود الجيوش ويخوض غمرات الموت ولا يستسلم لداعي الترف المضني، ومع ذلك أثر عنه التوسع في المأكل والمشرب
"الدولة العباسية"، ص219.
ومن العلماء الربانيين:
¥