تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القاضي الحافظ: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي، رحمه الله، صاحب "السنن" الكبرى والصغرى، فقد نقل عنه أنه كان ممن توسع في النكاح، فكان متزوجا بأربع يقسم لهن، ولا يخلو مع ذلك من سرية، وكذا نقل عنه التوسع في المأكل، فكان يكثر من أكل الديوك، فتشترى وتسمن له بعد خصيها، لأن لحم الخصي منها أطيب، فيأكل كل يوم ديكا كاملا، ويشرب عليه نقيع الزبيب الحلال، وبلغ من نضارة وجهه الذي أشبه القنديل كما ذكر ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله، وظهور دمه، أن بعض الطلبة قال: ما أظن أبا عبد الرحمن إلا أنه يشرب النبيذ، لأن النبيذ يجري الدم في وجه شاربه، ومع ذلك لم يذم النسائي، رحمه الله، بذلك.

والشبع ليس مذموما على الدوام، بل يكون أحيانا مطلوبا، كما في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه، راوية الإسلام الأول، الذي كابد من الجوع ما كابد، حتى كان يغشى عليه من شدته، فقد شرب من قدح اللبن الذي أعطاه له الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتوى فما عاد يجد في جوفه متسعا لشربة أخرى.

واستقصاء أخبار الفضلاء الذين أثر عنهم التوسع في الطيبات، يصلح مادة لبحث لطيف، يسري عن النفس، ويعزي إخواننا أصحاب الأوزان الثقيلة!!!!!، فليس كل جسيم مذموما، بل إن غالبهم من أصحاب الأرواح الخفيفة!!!، وليس كل توسع في مباح منبوذا.

الشاهد أنه ليس في الحديث ما يذم به معاوية، رضي الله عنه، وإلى نفس المعنى تقريبا أشار العلامة محب الدين الخطيب، رحمه الله، بقوله:

"فالظاهر أن هذا الدعاء منه صلى الله عليه وآله وسلم غير مقصود، بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كقوله صلى الله عليه وسلم في بعض نسائه: تربت يمينك، ويمكن أن يكون ذلك منه صلى الله عليه وسلم بباعث البشرية التي أفصح عنها هو نفسه صلى الله عليه وآله وسلم في أحاديث كثيرة متواترة منها حديث عائشة رضي الله عنها: ( .............. أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟، قلت: اللهم إنما أنا بشر، فأي المسلمين لعنته أو سببته، فاجعله له زكاة وأجرا) ".

من تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص165.

وأما مسألة ولاية العهد لابنه يزيد، فإنها مما اجتهد فيه معاوية، رضي الله عنه، إذ رأى العصبة والقوة العسكرية في صف ابنه يزيد، فبنو أمية يومئذ أهل الغلب، والأمة قد خرجت لتوها من الفتنة، فأراد أن يقطع دابرها، فعهد بالأمر لمن رأى معه القوة التي تجمع الكلمة وتوحد الصف، وإلى ذلك أشار ابن خلدون، رحمه الله، بقوله:

"والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصا على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذه العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحا كان أو محظورا كما هو معروف عنه ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير، رضي الله عنه، ثم قال بعد ذلك في موضع تال: أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا، "وهو الإمام علي الرضا حفيد الإمام جعفر الصادق رحمهما الله، من سادات آل البيت رضوان الله عليهم في زمانه"، كيف أنكرت العباسية ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخصه لطفا من الله بعباده".

"مقدمة ابن خلدون"، ص210، 211.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير