فمراعاة اختلاف الأزمان والمصالح، مئنة على الفقه والفهم، وليس المقام مقام تحرير لهذا الاجتهاد، فسواء أصاب معاوية، رضي الله عنه، أم لم يصب، فهو متردد بين الأجر والأجرين، ولا يظن به، لصحبته وفضله، إلا ذلك، لمن سلم قلبه من الغل.
وما أثار الناس على معاوية، رضي الله عنه، في هذا ألأمر، ما جرى بعد ذلك من استشهاد الحسين، رضي الله عنه، في "كربلاء"، بعد أن خذله أهل الكوفة الذين ادعوا نصرته ثم قعدوا عنها ولما قتل خرجوا مهتكي الجيوب يبكون عليه إلى اليوم!!!! وهم الذين أسلموه إلى عدوه، وقد لعبت ألسنة الكذابين دورا كبيرا في تضخيم هذه المصيبة التي أصابت الأمة، فروج القوم لفرية سبي نساء أهل البيت، رضوان الله عليهم، وحملهن على الجمال بلا أقتاب، وهذا من الكذب الصراح إذ ما استحلت أمة محمد صلى الله عليه وسلم سبي هاشمية قط، وإنما استحل ذلك المغول لما دخلوا بغداد، بخيانة أقوام يدعون الانتساب لآل البيت!!!!، وإلى ذلك أشار أبو العباس بن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وأما ما ذكره، أي: صاحب منهاج الكرامة، من سبي نسائه والذراري والدوران بهم في البلاد وحملهم على الجمال بغير أقتاب فهذا كذب وباطل ما سبى المسلمون ولله الحمد هاشمية قط ولا استحلت أمة محمد صلى الله عليه و سلم سبي بني هاشم قط ولكن أهل الهوى والجهل يكذبون كثيرا كما تقول طائفة منهم إن الحجاج قتل الأشراف يعنون بني هاشم.
وبعض الوعاظ وقع بينه وبين بعض من كانوا يدعون أنهم علويون ونسبهم مطعون فيه فقال على منبره إن الحجاج قتل الأشراف كلهم فلم يبق لنسائهم رجل فمكنوا منهن رجالا فهؤلاء من أولاد أولئك وهذا كله كذب فإن الحجاج لم يقتل من بني هاشم أحدا قط مع كثرة قتله لغيرهم فإن عبد الملك أرسل إليه يقول له إياك وبنى هاشم أن تتعرض لهم فقد رأيت بني حرب لما تعرضوا للحسين أصابهم ما أصابهم أو كما قال ولكن قتل الحجاج كثيرا من أشراف العرب أي سادات العرب ولما سمع الجاهل أنه قتل الأشراف وفي لغته أن الأشراف هم الهاشميون أو بعض الهاشميين أو بعض الهاشميين ففي بعض البلاد أن الأشراف عندهم ولد العباس وفي بعضها الأشراف عندهم ولد علي.
ولفظ الأشراف لا يتعلق به حكم شرعي وإنما الحكم يتعلق ببنى هاشم كتحريم الصدقة وأنهم آل محمد صلى الله عليه و سلم وغير ذلك.
والحجاج كان قد تزوج ببنت عبد الله بن جعفر فلم يرض بذلك بنو أمية حتى نزعوها منه لأنهم معظمون لبني هاشم.
وفي الجملة فما يعرف في الإسلام أن المسلمين سبوا امرأة يعرفون أنها هاشمية ولا سبي عيال الحسين بل لما دخلوا إلى بيت يزيد قامت النياحة في بيته وأكرمهم وخيرهم بين المقام عنده والذهاب إلى المدينة فاختاروا الرجوع إلى المدينة ولا طيف برأس الحسين وهذه الحوادث فيها من الأكاذيب ما ليس هذه موضع بسطه".
"منهاج السنة"، (4/ 558).
وإلى حسن معاملة يزيد لآل البيت بعد استشهاد الحسين، رضي الله عنه، واستمرار الصلات الحسنة والمكاتبات بينه وبين علي زين العابدين بن الحسين، رحمه الله، أشار الطبري وابن قتيبة، رحمهما الله، في "تاريخ الطبري"، و "الإمامة والسياسة" لابن قتيبة، وإن كانت نسبة الكتاب الأخير لابن قتيبة، رحمه الله، محل نظر، بل الراجح أنه مما افتري عليه ونسب إليه زورا لتضمنه أكاذيب لا تليق نسبتها لإمام من أئمة أهل السنة كابن قتيبة، وقد فصل الشيخ محب الدين الخطيب، رحمه الله، القول في هذه المسألة، كما سيأتي إن شاء الله.
الشاهد أن هذا الكتاب مع تضمنه لهذه الأكاذيب إلا أنه يضم روايات تدل على مدى توجع يزيد من استشهاد الحسين، رضي الله عنه، وبكائه الحار عليه، وبكاء أهل الشام معه.
بل إن المسعودي، وهو ممن يوثق به عند القوم، يروي في مروج الذهب (3/ 141)، أن عبيد الله بن زياد، عامله الله بما يستحق، وهو الذي سير الجيش الذي قاتل الحسين، رضي الله عنه، قال لقاتل الحسين: إنه كان خير الناس أبا وأما، وخير عباد الله، فلم قتلته، ثم أمر بضرب عنقه.
بتصرف من تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص186، 187.
¥