فلم يكن الأمر، كما صوره كذبة المؤرخين، على أنه عملية تطهير عرقي لبني هاشم، أشرف على تنفيذها أبناء عمومتهم: بنو أمية، فكثير مما ذكر من مظالم تعرض لها آل البيت، رضوان الله عليهم، في العصرين الأموي والعباسي كذب محض، وإن كان أهل السنة لا ينكرون ما وقع لآل البيت من اضطهاد وتضييق في بعض الفترات لا سيما في زمن الخليفة أبي جعفر المنصور لما خرج عليه محمد النفس الزكية وأخوه إبراهيم رحم الله الجميع.
بل إن بني أمية كانوا معظمين لبني هاشم، كما تقدم من كلام ابن تيمية.
وقد عاب أهل السنة على يزيد أنه، وإن أظهر التوجع على الحسين، رضي الله عنه، لم يأمر بمعاقبة قاتليه، فضلا عما أوقعه جيش الشام بقيادة مسلم بن عقبة بأهل المدينة يوم الحرة، وإلى ذلك أشار ابن تيمية، رحمه الله، بقوله:
"وأما ما فعله بأهل الحرة فإنهم لما خلعوه وأخرجوا نوابه وعشيرته أرسل إليهم مرة بعد مرة يطلب الطاعة فامتنعوا فأرسل إليهم مسلم بن عقبة المري وأمره إذا ظهر عليهم أن يبيح المدينة ثلاثة أيام وهذا هو الذي عظم إنكار الناس له من فعل يزيد، ولهذا قيل لأحمد: أتكتب الحديث عن يزيد قال: لا ولا كرامة أو ليس هو الذي فعل بأهل المدينة ما فعل.
لكن لم يقتل جميع الأشراف ولا بلغ عدد القتلى عشرة آلاف، ولا وصلت الدماء إلى قبر النبي صلى الله عليه و سلم ولا إلى الروضة ولا كان القتل في المسجد". اهـ
"منهاج السنة"، (4/ 575، 576).
فلم يكن الأمر، أيضا، كما صور القوم، مع أن ما أمر به مسلم بن عقبة من استباحة المدينة ثلاثة أيام، مما يستحق عليه التعزير، كما فعل أحمد رحمه الله.
وإليه أشار ابن كثير، رحمه الله، بقوله: (قد أخطأ يزيد خطأ فاحشا في قوله لأميره مسلم بن عقبة في وقعة الحرة أن يبيح المدينة ثلاثة أيام مع ما انضم إلى ذلك من قتل خلق من الصحابة وأبنائهم)، "البداية والنهاية"، (8/ 225)، نقلا عن "حقبة من التاريخ"، للشيخ عثمان الخميس، حفظه الله، ص154.
وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أول جيش يغزون مدينة قيصر مغفور لهم)، والحديث عند البخاري، رحمه الله، في كتاب الجهاد، باب: ما قيل في قتال الروم، حديق رقم: 2924.
فللرجل حسنات كسبها، وعليه سيئات اكتسبها، وخلاصة القول فيه:
أن أمره إلى الله تبارك وتعالى، فـ: لا نحبه ولا نسبه، كما قال الحافظ الذهبي رحمه الله.
وإلى ذلك أشار ابن تيمية بقوله:
"فهكذا الواحد من الملوك أو غير الملوك وإن كان صدر منه ما هو ظلم فإن ذلك لا يوجب أن نلعنه ونشهد له بالنار ومن دخل فى ذلك كان من أهل البدع والضلال فكيف إذا كان للرجل حسنات عظيمة يرجى له بها المغفرة مع ظلمه كما ثبت فى صحيح البخارى عن ابن عمر عن النبى أنه قال: (أول جيش يغزوا قسطنطينية مغفور له)، وأول جيش غزاها كان أميرهم يزيد بن معاوية وكان معه في الغزاة أبو أيوب الانصارى وتوفى هناك وقبره هناك الى الآن ولهذا كان المقتصدون من أئمة السلف يقولون فى يزيد وأمثاله: إنا لا نسبهم ولا نحبهم أي لا نحب ما صدر منهم من ظلم والشخص الواحد يجتمع فيه حسنات وسيئات وطاعات ومعاصى وبر وفجور وشر فيثيبه الله على حسناته ويعاقبه على سيئاته إن شاء أو يغفر له ويحب ما فعله من الخير ويبغض ما فعل من الشر".
"مجموع الفتاوى"، (4/ 474، 475).
وهذا مذهب أهل السنة في عصاة الموحدين ممن اجتمعت فيهم حسنات وسيئات.
وليس المقصود هنا أصالة الدفاع عن يزيد، وإنما هو من باب المقصود لغيره، لأن بسط حقيقة ما حصل في خلافته بعد استبعاد الأكاذيب التي نسجها كذبة المؤرخين، مما يقوي موقف أبيه، وإن لم يسلم له في اجتهاده في مسألة العهد لابنه يزيد، فيزول ما في الصدور من غل له أو سوء ظن به، كما أن الدفاع عن معاوية، رضي الله عنه، لا يقصد به الانتصار لشخصه، بقدر ما يقصد به الانتصار لصحب محمد صلى الله عليه وسلم، لأن فتح باب الطعن في أحدهم فتح لباب الطعن في جميعهم، ولو بعد حين، فمن طعن في معاوية اليوم، طعن في علي وعثمان وعمر وأبي بكر غدا، ثم تعداه إلى الطعن في صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الهدى والنور، وبهذا المسلك الخبيث توصل الباطنية الملحدون من الإسماعيلية ونحوهم إلى سلخ فئام من الناس من
¥