دينهم سلخا، كما أشار إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، رحمه الله، فيما نقله عنه ابن تيمية، فمن غلا في حب علي، رضي الله عنه، دخلوا عليه من جهة أنه كان مغلوبا مقهورا في خلافة من سبقه، بزعمهم، ومن كان كذلك فهو لا يصلح لأن يكون وصيا للنبي صلى الله عليه وسلم، وما زالوا به حتى بغضوا إليه عليا، رضي الله عنه، وأخرجوه من دائرة الإسلام جملة وتفصيلا إلى ديانتهم الباطنية الملحدة.
فالحذر الحذر من التساهل في قبول أي طعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن بعض أهل السنة يغضب، أيما غضب، إذا تعرض أحد لأبي بكر أو عمر أو عثمان، ولا يغضب إذا ما قدح في معاوية، رضي الله عنه، وكأنه يسلم للقادح، بل يوافقه بالتصريح أحيانا، وبالتلميح أحيانا أخرى، كما هو حال كثير من أهل السنة عندنا في مصر الحبيبة، ففيهم نوع انحراف عن معاوية، رضي الله عنه، لا سيما في المناطق النائية التي يقل فيها العلم ويفشو فيها الجهل، وقد حكى لي أحد إخواني الأفاضل، أن امرأة عجوزا في قريته، سمعت من يترضى عن معاوية، فأنكرت عليه بقولها: وهل معاوية صحابي حتى يترضى عنه؟!!، وهذا مما تبقى من آثار دولة بني عبيد الخبيثة في معتقدنا، أبناء مصر، وإن كنا معظمين، أيما تعظيم، للشيخين، رضوان الله عليهما، ولكن الأمر ليس تشهيا، بحيث يميل أحدنا إلى فلان من الصحابة، وينحرف عن فلان، أو يقدم فلانا على فلان، وإنما مرد الأمر إلى الله، عز وجل، فيقدم من قدمه، ويؤخر من أخره، وقد أمرنا بالترضي عن الأصحاب كلهم بلا استثناء.
وقبل القراءة في هذه الحقبة التاريخية لابد من استحضار ضوابط من أبرزها:
استحضار الآيات والأحاديث التي بلغت حد التواتر في فضائل القوم بحيث تكون نصب عيني القارئ عند تحليل أحداث أي واقعة تمر عليه أثناء القراءة، لأن القوم ما كانوا ملائكة معصومين، فيرد المتشابه من أفعالهم وأقوالهم إلى المحكم من فضائلهم.
والاعتقاد إجمالا: بأن غالب ما جاء في كتب التاريخ مما ظاهره القدح فيهم، كذب صراح، وإن صح فهو مما اجتهدوا فيه فلم يصيبوا فحازوا أجر المجتهد المخطئ، وإن كان ذنبا، فهو مغمور في بحار حسناتهم، ولم يدع أحد عصمتهم كما تقدم.
وانتقاء الكتب التي تكلمت عن هذه الحقبة، فتستبعد الكتب التي صنفها مؤرخون أو مصنفون متهمون كـ: "الأصفهاني"، و "اليعقوبي" و "المسعودي"، وإن كان "المسعودي"، قد أجاد مع غلوه في عرض مادته التاريخية فضلا عن الرحلات التي قام بها لبلاد كثيرة، سطر أحداثها في "مروج الذهب"، يحضرني منها الآن رحلته إلى بلاد روسيا الحالية ووصفه لهمجية شعبها وغلظ أفئدتهم وبعدهم عن الحضارة الإنسانية آنذاك، وهو أمر لا زال متأصلا فيهم، ولا أدل على ذلك من همجيتهم في "الشيشان"، ومن قبلها "أفغانستان"، فكتابه، على كل حال، مرجع مهم من مراجع التاريخ الإسلامي، يستفيد منه من وقف على غلو الرجل، فميز بين حقه وباطله، لا سيما في حقبة الخلافة الراشدة، إذ أورد على سبيل المثال:
قصة خداع عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري، رضي الله عنهما، في واقعة "التحكيم"، وهي القصة التي تلقفتها جموع المسلمين على أنها حقيقة مسلمة، مع أن فيها من الكذب والمغالطة ما فيها، وقد فندها ابن كثير، رحمه الله، بقوله:
"فإنه، أي: حديث واقعة التحكيم، حديث منكر ورفعه موضوع، والله أعلم. إذ لو كان هذا معلوما عند علي، رضي الله عنه، لم يوافق على تحكيم الحكمين، حتى لا يكون سببا لإضلال الناس، كما نطق به هذا الحديث. وآفة هذا الحديث هو: زكريا بن يحيى، وهو الكندي الحميري الأعمى، قال ابن معين رحمه الله: ليس بشيء". اهـ، "البداية والنهاية"، (7/ 385)، نقلا عن تعليقات الشيخ محب الدين على "العواصم من القواصم"، ص139.
ويؤكد القاضي ابن العربي المالكي، رحمه الله، على هذه الحقيقة الضائعة بقوله:
"هذا كله كذب صراح، ما جرى منه حرف قط. وإنما هو شيء اخترعته المبتدعة، ووضعته التاريخية للملوك، فتوارثه أهل المجانة والجهارة بمعاصي الله والبدع".
"العواصم من القواصم"، ص139.
¥