وإنما يحدث الخلل إذا قدم واجب على واجب، أو استعجل أمر لم يحن أوان وقوعه بعد، وهذا خطأ وقعت فيه بعض التيارات الإسلامية في أواخر القرن الماضي لما استعجلت نصرا لم يحن أوانه بعد، فحدث من الفتن ما حدث، وأريقت دماء كثير من الأبرياء، وتسلطت الأجهزة الأمنية على الشعوب أكثر وأكثر بحجة "مكافحة الإرهاب" وظلم كثير من المسلمين، ولو صبر القوم، كما صبر الجيل الأول لما وقعت هذه الفتن المظلمة التي اختلط الحق فيها بالباطل، وصد كثير من الناس عن دين الله، عز وجل، بسببها، فكانت هذه التصرفات الانفعالية غنيمة سهلة تلقفها العلمانيون وراحوا يروجون بضاعتهم الفاسدة بين أفراد الشعوب الإسلامية فلسان مقالهم وحالهم: هذا هو الإسلام، لو حكم الإسلام فالويل لكم من سفاكي الدماء الذين شهروا السلاح وفجروا المفخخات و ................... إلخ.
وعن رد فعل الجهات الأمنية في الدول العربية: فحدث ولا حرج، وكان الله في عون إخواننا في الجزائر والمغرب، فغالبا ما يظلم كثير من العلماء والدعاة وطلبة العلم وآحاد المسلمين في مثل هذه الفتن، كما حصل بعد تفجيرات الدار البيضاء في شهر مايو 2003 التي اعتقل بعدها عدد كبير من إخواننا في المغرب الحبيب ظلما، وإن أفرج عن كثير منهم بعد ذلك.
وأما التنظيم الذي تبنى هذه العمليات: فهو تنظيم يتبنى العمل المسلح داخل الدول الإسلامية، وخارجها من باب أولى، وقد عرف بنوع غلو في التعامل مع الأنظمة الحاكمة في الدول العربية، كما تقدم، ولكنه، من باب الإنصاف، قام بإمداد الجبهات الإسلامية المشتعلة بمقاتلين أشداء أبلوا بلاء حسنا في كثير من المعارك "الحقيقية" مع "أعداء الأمة" لا مع "الأمة"!!!، وقد وصفوا بأنهم "خوارج" هذا العصر، كما وصفت كثير من التيارات الإسلامية، وإن لم ترفع سلاحا أو تسفك دما، ولكنها، كما تقدم، تهم جاهزة تطلق بعموم مجرد عن أي قيد!!!.
ولا شك في خطئهم في هذه المسألة "العملية"، إلا أن إطلاق لفظ "خوارج" عليهم فيه من التعسف ما فيه، فالقوم أصحاب معتقد سليم، فالمسائل العلمية عندهم محررة، وإنما عرض لهم الخطأ في بعض المسائل العملية وعلى رأسها: مسألة التعامل مع الأنظمة الحاكمة، بينما الخوارج: اصطلاحا، عندهم من الطوام العلمية والعملية ما عندهم، فالتسوية بين الفريقين: تسوية بين مختلفين، وقد أعجبني وصف أحد علماء المملكة لهم لما سئل عن الأحداث الأخيرة التي شهدتها المملكة فنفى أن يكونوا خوارج، وإنما هم فئة طلبت الحق فضلت لقصور علمها، وكم من مريد للخير لم يصبه.
وأبى الله أن تكون العصمة لأحد بعد محمد صلى الله عليه وسلم وجماهير المسلمين:
ما بين إفراط في تأييدهم وإن أخطؤوا، وتفريط لا يرى صاحبه إلا المساوئ، فينصب لهم العداء وإن أصابوا، والحق وسط بين طرفين.
ولا شك أن هذه العمليات تهدم جهود عشرات العلماء والدعاة في نشر الإسلام الصحيح، ولا شك أن هذه الفتن تبرز أهمية طلب العلم الشرعي والالتفاف حول العلماء الربانيين، ففي العلم عصمة من الشبهات والشهوات.
وينبغي في هذا المقام التحذير مجددا من التسرع في إطلاق الأسماء الشرعية من: تكفير وتفسيق وتبديع، فالتكفير حكم بالإعدام في الدنيا، والخلود في العذاب يوم القيامة، فلا يتكلم فيه إلا العلماء الربانيون الذين فقهوا أحكامه، وأقاموا حججه، وأزالوا لبسه ................ إلخ من الضوابط التي يتورع كبار العلماء عن الخوض فيها إلا تأصيلا وتقعيدا، لا تنزيلا على أفراد، إلا إذا دعت الحاجة الشرعية لذلك، بينما يتسرع كثير من السفهاء في إطلاقه دون أي سابقة علم.
يقول ابن تيمية رحمه الله:
"وإذا عرف هذا فتكفير المعين من هؤلاء الجهال وأمثالهم بحيث يحكم عليه بأنه من الكفار لا يجوز الاقدام عليه إلا بعد ان تقوم على أحدهم الحجة الرسالية التي يتبين بها أنهم مخالفون للرسل وإن كانت هذه المقالة لا ريب أنها كفر.
وهكذا الكلام في تكفير جميع المعينين مع أن بعض هذه البدعة أشد من بعض وبعض المبتدعة يكون فيه من الإيمان ما ليس في بعض فليس لأحد أن يكفر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تقام عليه الحجة وتبين له المحجة.
¥