تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإن ضعف هذه الشعيرة في مجتمع، لا يقف عند حدود هذا الضعف، بل المصيبة في ذلك مضاعفة، حيث ينتج عن ذلك لا محالة قوة شديدة في الدعوة إلى المنكر وإبرازه وإحداث الحصانة له، بل يصل الأمر إلى الإكراه عليه، وينتج عنه أيضاً حرب للمعروف وإيذاء لأهله. وهكذا بقدر ما يكون الضعف يكون ما يقابله حتى تصبغ بالمجتمع حال النفاق والمنافقين كما أخبر الله تعالى بقوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (67) سورة التوبة. وإن النفوس الضعيفة عندما تنقطع عليها لذائذها المحرمة بتحقيق تلك الشعيرة في المجتمع تسعى جهدها لتهوين تلك الشعيرة، بإلقاء الشبهات والآراء السفيهة حولها، فتجدهم في حين يدعون أن ذلك ينافي الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل إنسان، ويزيد الطين بلة عندما يستدل لرأيه هذا بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين) وما علم أن هذه الآية في الكافر ألا يُكره على دخول الإسلام، بل ليس كل كافر، فقد رجح كثير من المفسرين أن هذا الحكم خاص بأهل الكتاب ومن شابههم، فتؤخذ منهم الجزية ويبقون على دينهم، هذا وقد ذهب بعض أهل العلم أن هذه الآية منسوخة بآية القتال. ثم إن ذلك الكافر ليس له أن يفعل في مجتمع المسلمين ما يشاء مما يقرّه مجتمعه، فهل يريد ذلك بمثل هذه الاستدلال أن يسقط تلك الشعيرة، فأين تلك الآيات والأحاديث المتوافرة بشأنها وعظم وجوبها. ثم أين تلك الحرية المزعومة حين تردّ الأمور إلى اختيار نفس ضعيفة، همها السعي وراء لذائذها، وتلك أحوال الأمم التي تدعي الحرية المطلقة لكل فرد من أفرادها كيف استحالت إلى مجتمعات بهيمية، بل أسفل من ذلك، وفي كل يوم ينطق حالها بتلك الفضائح المخزية، وتلك الآراء التي تضحك العقول، وما تلك المؤتمرات التي يعقدون عن السامع ببعيد. وتأتي حجة أخرى باعثها التقاعس عن تلك الشعيرة أو المحاربة لها، وذلك أن المرء عليه بنفسه وصلاحها، ولا يلتفت إلى مخالفات الآخرين فإن ذلك لا يضربه فالضرر على أصحابها فقط، ثم يستدل بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى} (105) سورة المائدة. ولو تأمل الآية بتمامها لما نطق بالاحتجاج بها على رأيه هذا، فالله تعالى يقول: (إذّا اهًتّدّيًتٍمً) المائدة:105 فأين الاهتداء إذا عطّل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد تصدى الصديق لهذه الشبهة فقال: يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى}، وإني سمعت رسول الله يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه" (رواه أبو داود والترمذي والنسائي). ويأتي آخر ويوهن من قدر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصدع بالحق بحجة أن ذلك موجب للفتنة والبلاء، وقد يُتسلط بسبب ذلك على الصالحين. فتضعف هيبتهم في قلوب الناس، ولا يؤخذ منهم قول ولا رأي. فسبحان الله، أي دعوة صادقة قامت من غير ابتلاء، ومصاعب يلاقيها أصحابها، هل سلم من ذلك الأنبياء حتى يسلم منه غيرهم؟! ولكنه خلودٌ إلى بعض المتاع، ولو مست أي مصلحة من مصالحه لأقام الدنيا وأقعدها ولم يبال أتكلم به فلا، أو ترصد له فلان. وفي أمثال هؤلاء يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تنتهك وحدوده تضيع، ودينه يترك، وسنة رسول الله يُرغب عنها وهو بارد القلب! ساكت اللسان! شيطان أخرس، كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق.

وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو ماله: بذل وتبذّل، وجدّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه. وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم قد بُلوا في الدنيا بأعظم بلية تكون، وهم لا يشعرون وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان غضبه لله ورسوله أقوى وانتصاره للدين أكمل".

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير