فكيف لو أدرك أمثال هؤلاء زماننا، نسأل الله تعالى العافية في الدنيا والآخرة.
فعلى الطالب أن يشمر عن ساعد الجد في معرفة علوم الشريعة، وليبدأ بالأهم فالمهم، وليعلم أن العلم لا ينال براحة الجسم كما قال السلف، بل عليه أن يتعب ويرحل، ويسمع وينسخ، وقد ذكر أهل العلم العلوم النافعة التي ينبغي أن يعتني بها الطالب، فالعلوم الباطلة كثيرة جدا فلتحذر، وأن لا يفتر من طلب العلم إلى الممات، بنية خالصة وتواضع، والعلم النافع هو ما نزل به القرآن وفسره سيد الأنام قولا وفعلا، وقد ذكر الذهبي رحمه الله أقسام العلوم بكلام متين يدل على سعة علمه وتبحره، فلا بأس من إيراده ثم التوسع في شرحه وتفكره، قال رحمه الله:
«المستحبُّ طلب علم الفقه والإمعان فيه، ومعرفة أقوال الصحابة والتابعين، وحُججهم من الكتاب والسنة الصحيحة، ونحو ذلك، وبعضه آكدُ من بعض.
ومعرفة التفسير وما لابد منه من معرفة العربية ولغة القرآن ولغة الحديث والفقه، ومهمات الطب، وما صحَّ من الحديث النبوي وما حسُن، وما ثبت من القراءات وغير ذلك.
ومعرفة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ومغازيه، وسيرة الخلفاء الراشدين، ومعرفة رجال الحديث وجرحهم وتعديلهم، إلى غير ذلك مما يتعلق بهذه العلوم، إلى أن ينتقل العالم إلى المباح من معرفة تاريخ العالَم واللغات والشعر المباح.
بل كلُّ علم من العلوم الإسلامية ينقسم إلى الأقسام الخمسة، وليس في العلوم الإسلامية ما كلُّه حقٌّ وتعلُّمه متعين غير الكتاب العزيز، فإنك تنتقل بعده إلى علم حفظ متون حديث الصحيحين والسنن الأربعة والموطأ.
فمنها ما هو فرض لا يسع المرءَ جهلُه، ومنها ما يُندبُ إلى معرفته، ولا ينبغي للمرء جهله، كعدَّة أحاديث في الإيمان والطهارة والصلاة والزكاة والحج والبيع والنكاح والحدود والأطعمة، وبعضُها آكد من بعض، كما أنَّ بعضها يتعيَّن على الطالب الذكيِّ.
ومنها ما هو مباح كحديث أم زرع وحديث الإسرائيليات من جامع الأصول، ونحو ذلك مما يجري مجرى القصص، وبعضٌ أولى من بعض.
وقسمٌ يُكره حفظه لضعفه واطِّراحه، كفضل قزوين، وحديث: أنا دار العلم وعلي بابها، وحديث ابن عباس في حفظ القرآن، وأنَّ السِّجل اسم كاتب الوحي، وما أشبه ذلك من الموضوعات، فإن المقتصر على حفظ متون هذه يتضرر بها، وتتعلق بذهنه، ويعتقدها ثابتة، فلا ينبغي التشاغل بحفظها إلا لمن يعرفها ليُحذر منها.
وقسم يحرم حفظ متونه: كحديث عرق الخيل، والجمل الأورق، وهذه الأكذوبات التي وُضعت في الصفات، فلا ينبغي للمرء أن ينطق بها، وإن نطق فللتحذير منها، فإذا كان هذا في الحديث النبوي، فما الظنُّ بسائر العلوم.
وكذلك في تفسير القرآن، منه ما هو حتم ومنه ما مستحب، ومباح ومكروه، فكثرة الأقوال في الآية ـ مع وهنها وبُعدها من الصواب الذي هو وجه واحد دلَّ السياق والخطاب العربي عليه: مكروه حفظها والاعتماد عليها، فإن القول الصحيح يضيع بينها.
والمحرم: حفظ تفسير القرامطة والإسماعيلية وفلاسفة المتصوفة الذين حرَّفوا كتاب الله فوق تحريف اليهود، مما إذا سمعه المسلم بل عامة الأمة ببداءة عقولهم علموا أنَّ هذا التحريف افتراء على الله وتبديل للتنزيل، ولا أستجيز ذكر أمثلة ذلك فإنه من أسمج الباطل.
وهذا بابٌ واسع جدا، يحتاج إليه الطالب ليتعب فيما هو الحق، وليهرب مما هو محض الإفك الذي هو زغل الحديث والتفسير والقراءات وأخبار الأمم والسير والمغازي والمناقب وفقه جهلة الروافض.
وكذلك الشِّعر هو كلام كالكلام، فحسنه حسن، وقبيحه قبيح، والتوسع منه مباح، إلا التوسع في حفظ مثلا شعر أبي نواس وابن الحجاج وابن الفارض فإنه حرام، قال في مثله نبيُّك صلى الله عليه وسلم: «لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحا حتى يَريه خير له من أن يمتلئ شعراً» وقال في المباح والمستحب منه: إنّ من الشعر حكمة، وقال في حقِّ حسان إذ هجا المشركين: اهجهم وجبريل معك». انتهى كلامه رحمه الله. مسائل في طلب العلم (ص 204).
فإذا كان الأمر كذلك، على ما بيَّن هذا الإمام الناصح، فإن العلم يدور على فهم وفقه كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل ما يتعلق من أمور الدين، عقدية وعبادة ومعاملة وأخلاقا وآدابا، فينبغي للطالب أن يعرف ويتعرف على المصادر الأصيلة التي هي مظنة للعلم الصحيح، فيأخذ العلم متبعا أسس التحصيل معتنيا بالأخذ عن الشيوخ الثقات وحفظ المتون النافعة، يرفع الله قدره ويعلي شأنه ويذلل له المسالك، وأن يتحلى بآداب الطلب، وعدها لا يحصر، وهي للعلم كالسور للبنيان.