مما أضر كثيراً من طلاب العلم اليوم ([83]) أنهم لا يذاكرون، يأتي الشخص إلى مجلس العلم دون تحضير للدرس، فيفاجأ بأشياء، وتنهال عليه المعلومات، فلا يستطيع أن يضبط الدرس، لكن إذا كان عنده تحضير سابق مع مذاكرة ومناظرة لاحقة فإن هذا من أضبط ما يكون للعلم، وإذا انتهى من الدرس يرجع إلى البيت ويحاول يستذكر الشرح مرة ثانية، ولو كان معه طالب علم يتذاكر معه بحيث يكمل كل منهما النقص الذي ربما فات الآخر، لكان ذلك أضبط للعلم، والمذاكرة حياة العلم، كما قال بعض الفضلاء ([84]):
واعلم بأن العلم بالمذاكرة والدرس والفكرة والمناظرة
وكان السلف –رحمهم الله- يعرفون هذا كما قالوا:
(كنا نسمع الحديث من جابر بن عبد الله، فإذا خرجنا من عنده تذاكرنا، فإذا أبو الزبير أحفظنا .. ) ([85]).
ثم يفضل بعد الدرس وبعد المذاكرة مع طالب علم جيد وحريص على الفائدة أن تكتب المعلومات، أو تكتب ملخص استفدته من خلال الدرس ومن خلال المراجعة، هذا الملخص تعتبره كأساس لك في التحصيل، بحيث لو رجعت بعد ختم الكتاب ترجع إلى هذا الملخص، وتصبح المعلومات منضبطة مختصرة، ثم بعد ذلك تتوسع في شرحها والإضافة عليها، وما يستجدّ عندك من معلومات في كل باب وتحت كل مسألة بحسبها، وحسب توسعك في العلم والفن.
فإذا سار طالب العلم على هذه الطريقة، فإنه سيستفيد خيراً كثيراً، وأنبه على ضرورة اختيار طالب علم حريص على الفائدة، حتى لا يضيع وقتك.
الفصل الرابع
معالم في بعض أحكام الفتوى
تمهيد: في أهمية مقام الفتوى.
المَعْلَمَ الأول: الإخلاص في النية.
المَعْلَمَ الثاني: البصيرة وضبط العلم.
المَعْلَمَ الثالث: تحصيل الورع.
المَعْلَمَ الرابع: معرفة المصالح والمفاسد المترتبة على الفتوى.
المَعْلَمَ الخامس: تحصيل الخشية من الله.
المَعْلَمَ السادس: معرفة حال المستفتي.
تمهيد
الحديث في هذه (الأسطر) ([86]) عن ثغر من ثغور الإسلام، تبيِّن به الشريعة والأحكام ([87])، عن ذلك الثغر العظيم الذي تولى الله -جل وعلا- أمره من فوق سبع سماوات، ألا وهو الفتيا.
هذا الثغر الذي تتعطش الأمة في كل زمان ومكان إلى أهله ورجاله، الذين نور الله قلوبهم بالعلم، وشرح صدورهم بالعلم والحكمة والإيمان، فجعلهم به هداة مهتدين، يقولون الحق وبه يعدلون، هذا المقام العظيم الذي يقوم به المسلم مبلّغاً لشرع الله ودين الله عز وجل، فما أشرفه من مقام، وما أعظمه من ثغر جليل المرام، يوم يقف الإنسان لكي يبيّن الحلال والحرام ويفصّل الشريعة والأحكام، على نور من الله وهدى من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك أخبر الله جل وعلا أنه تولى هذا المقام العظيم بنفسه، فقال في كتابه الكريم: ((يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ)) [النساء:176]، يوم نزلت هذه النازلة برسول الأمة صلى الله عليه وسلم، فتولى الله جوابها وحلها ودفع إشكالها، وقد تقلدها رسول الأمة صلى الله عليه وسلم حين بين حلال الله وحرامه، وشرعه ونظامه، فهدى الله به الأمة إلى حكم الله في النوازل والمشاكل، ثم خلفه صلى الله عليه وسلم في هذا الثغر العظيم و المقام الجليل الكريم، أصحابه الكرام رضي الله عنهم أجمعين.
فكانوا أئمة هداة مهتدين، يسيرون على نهجه صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً واعتقاداً، ثم تبعهم التابعون لهم بإحسان كلما مضى لهم جيل، تبعه على ذلك النهج جيل، فهم على أوضح حجة وأبين سبيل، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى به عاملاً عن عمله، وما زالت الأمة بخير ما قام علماؤها بهذا الثغر، ولا تزال الأمة بخير مادام قد وجد فيها من يبيّن الحلال والحرام، ويفصّل الشريعة والأحكام، يلتزم بذلك المنهج المفضي إلى الجنة دار السلام، ولو لم يكن لفضل الفتوى إلا عظيم البلوى لكفاها شرفاً وفضلاً.
فإن العلماء –رحمهم الله- يقولون: يستدل على فضل الشيء بعظيم أثره في الناس.
فكم أُحيي من سنن المرسلين، وأُميتَ من بدع المضلين، حين تقلد الفتوى أئمة الدين، وكم انتشر من البدع والأهواء، وتنازعت الناس السبل، بسبب ضياع هذا الثغر العظيم.
ولذلك عدّ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الرزية العظيمة حين قال: (حتى إذا لم يَبقَ عالمٌ، اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا) ([88]).
¥