فما أعظمها من مصيبة على الأمة إذا تقلد الجهال هذا المقام، وما أعظمه من شرف، وما أجلّها من نعمة إذا وجد في الأمة العالم البصير الحاذق الذي يعرف حكم الله سبحانه وتعالى في النوازل والمشاكل.
وقد تسفك الدماء، وتنتهك الأعراض بسبب الخلاف في مسألة من مسائل الدين، حين لا يستطيع الناس أن يجدوا من يفصل بينهم في نازلة من النوازل.
فإن النفوس تحب الأموال، وقد تحب المناصب والمراتب، فيتنازع الناس في حلالها وحرامها، فيعيش الناس حياة الفوضى، حتى يأتي ذلك العالم البصير الخبير لكي يخبر عن حكم الله الحكيم الخبير في هذه النازلة، التي لولا أن الله لطف وهيأ لهم هذا العالم لانتهت بالناس إلى شرّ عظيم وبلاء عميم.
فالفتوى لها فضل عظيم. قال العلماء: إن الإنسان إذا تقلد الفتوى أجر على علمها والعمل بها.
فتصور أخي طالب العلم إذا خرجتَ إلى أمتك وقمتَ على هذا الثغر في بلدك، فأصبحت الناس تصدر عن رأيك في الحلال والحرام، يعملون به آناء الليل وأطراف النهار، وأجور امتثالهم لأمر الله في صحيفة عملك.
ولذلك ورد في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: (أن الرجل ينصب له ميزانه يوم القيامة، فتأتي أعمال كالغمامات، فيقول: يا رب .. ما هذا؟ يقال: سنن دعوتَ إليها، كتب لك أجر من عمل بها) ([89]).
فهذا عضل عظيم، وكم من كُرُبات تفرّج بالفتوى بإذن الله عز وجل، يأتيك السائل في ظلمات الليل قد قال لامرأته كلمة لا يدري أهي حلال، فيعيش معها ويبيت معها، أم هي حرام، فلا يستقرّ قراره حتى يسألك فتفتيه عن حكم الله عز وجل.
ويأتيك الرجل قد ضاقت عليه الأرض بما رحبت في مال لا يدري أحلال فيطعم، أو حرام فيجتنب ويحجم، حتى تبيّن له حكم الله عز وجل في ذلك.
فالفتوى مقام عظيم، ولذلك تشرّف به العلماء وزادوا به شرفاً وفضلاً حينما جاءهم الجليل والحقير والسوقةُ والأمير لكي يعرف حكم الله جلّ وعلا عنده، فالناس كلهم محتاجون إلى المفتي، علت مناصبهم أم نزلت، شرفت مراتبهم أو أهينت، كلهم محتاجون إلى حكم الله تعالى الذي يبينه المفتي، ولذلك تشرف به العلماء، حتى أثر عن بعضهم أنه تقلد الفتوى ما لا يقلّ عن أربعين عاماً، فلما حضرته الوفاة بكتْ ابنته، فقال لها: أتبكي عليّ وأربعون عاماً أوقع عنه، يعني: أتسيئين الظن أن الله يخيّبني وأنا أربعون عاماً أسد ثغر الفتوى لأهل الإسلام.
ولازم هذا أن لكل مقام عظيم، وكل منصب جليل كريم يحتاج صاحبه لبلوغه أن يدفع الثمن، وأن يبذل المقابل والعوض، وكون الإنسان متحملاً لأمانة الفتوى يستوجب عليه ذلك أن يكون على صفات وأخلاق وآداب تليق بمثله أن يُبلِّغ عن الله عز وجل شريعته، وأن يبين حكمه، ولذلك تكلم العلماء عن آداب المفتي وشروطه، وأهليته، وما ينبغي أن يراعيه، فنسأل الله العظيم أن يشرفنا وإياكم بهذا المقام العظيم، وأن يرزقنا فيه الإخلاص.
لهذا المقام (معالم) وأمور يوصَى بها طالب العلم:
المَعْلَمَ الأول: إخلاص النية لله:
فأول ما يجب عليه في خاصة نفسه وأهمها وأعظمها: إخلاص النية لله جل وعلا، فإياك أن تُسأل عن مسألة أو تُسأل عن حكم شرعي وتريد أن تجيب فيه أو تتكلم فيه أو تبينه للناس إلا وأنت مخلص لوجه الله جل وعلا.
أن تبين حكم الله لعباد الله وأنت ترجو ما عند الله جل وعلا، وبالإخلاص يكون التوفيق وتيسير الفتوى ونور التقوى، الذي هو فرقان بين الحق والباطل: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا)) [الأنفال:29]، وعماد التقوى ولبّها وروحها وأساسها إخلاص النية لله جل وعلا.
ومن تكلم في المسائل، وحل المعضلات والمشاكل، وهو يرجو ما عند الله، فتح الله عليه في كلامه، وألهمه البصيرة في شريعته ونظامه، وكان موفقاً مسدداً ملهماً، ولا يزال المخلص يجد من الله معونة وكفاية للمئونة.
فبالإخلاص يعظم أجر البلوى، فإن الكلمة التي تخرج لوجه الله تصعد إلى الله وعليها نور.
لما أخبر الله تعالى أنه: ((إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر:10]، فكل مسألة في الدين تكلمت فيها وأنت ترجو رحمة الله رب العالمين، تؤجر عليها، على حروفها، على كلماتها، على الخير الذي يكون بها.
¥